ما تشهده الشوارع العربية اليوم ليس مجرد موجة عابرة ستنحسر. ومخطىء من يعتقد أن الأمور يمكن أن تُدار بالطريقة التي أديرت بها حتى الآن، فالأعاصير التي شهدناها ونشهدها، وبصرف النظر عن أية نتيجة ستؤول اليها، يجب أن تكون أكثر من كافية لتبديد الأوهام حول الطريقة التي يجب أن تساس بها الأمور في مجتمعاتنا العربية، وفي الأساس على أية أسس يجب أن تقوم العلاقة بين المجتمعات والحكومات.
يمكن ترحيل الأزمات والتحايل على مواقيت حلها والمواجهة الصريحة لها، ولكن هذا الترحيل ليس هو الحل، فالمشكلة التي لا تُحل تظل قائمة، وهي لا تسقط بالتقادم على طريقة الدعاوى القضائية، وانما تتفاقم وتستفحل، وتمتد آثارها الى مناطق ومواقع جديدة، فتتحول غالى ما يشبه الغرغرينا الذي لا علاج لها إلا بالبتر.
وهذا ما كان يحدث دائماً في العالم العربي منذ أن تشكلت الدولة القطرية العربية هنا وهناك، فجرى الهروب من استحقاقات المشاركة السياسية والتأسيس لحياة ديمقراطية، تارةً بالقمع الذي اتخذ في الكثير من الحالات طابعاً دموياً لتغييب الديمقراطية، وتارةً باقامة أشكال صورية خاوية من المحتوى بتشكيل مجالس لا صلاحيات لها، أو أنها خاضعة في المطلق للحزب الحاكم الذي يشكل أعضاؤه عمودها الفقري.
ما يُقال عن المشاركة السياسية يصح أيضاً على قضايا التنمية والموقف من العدالة الاجتماعية، فالزواج الآثم بين السلطات وبين الرأسمال الجشع والطفيلي الذي بنى ثرواته من سرقة المال العام والاستحواذ عليه، لا من عصاميته ومثابرته، أدى الى تشكيل نخب فاسدة، حمت مصالحها بأجهزة القمع وبترسانة من التشريعات الرجعية ومن حالات الطوارىء الدائمة.
لن يصلح الحال إلا عبر التفاهم مع الشعوب والإصغاء لمطالبها وحقوقها، فأصل الأمور كما تفترض الفطرة السوية للبشر ان الدولة نشأت لخدمة المجتمع وضبط ادارته والتعبير عن مصالحه، وليس العكس، بأن تـٌحول هذا المجتمع الى خادم لها، تستحوذ على ثروته لصالح نخبة صغيرة، مقابل الإفقار العام لسواده الأعظم.
ان التطورات الأخيرة في البلدان العربية لم يصنعها حزب أو جماعة، أو حتى مجموعة أحزاب او قوى، إسلامية كانت أو يسارية أو قومية، وعلى خلاف ما يُكرر اليوم فانها، كذلك، ليست نتاج الفيسبوك أو التويتر أو سواهما من وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة، فهذه كلها ليست سوى وسائل تعبئة، فالفيسبوك لا يصنع ثورة أو انتفاضة لم تنضج ظروفها أو تتهيأ لها السبل.
هذه التطورات هي نتيجة تراكم جبال من المرارات والقهر والغضب، وهي ليست مقطوعة الصلة عن تراث طويل من نضالات الشعوب وتضحياتها، يواصلها جيل اليوم الأكثر ذكاء والأفضل تعليماً والأسرع بديهة في التعامل مع الوسائط الحديثة والأفكار الجديدة.
هذا الجيل الجديد المفعم بالحيوية والمنفتح على العالم اشتد عوده ونضجت أفكاره في عالمٍ جديد يشهد انقلابات تقنية وفكرية غير مسبوقة، فوجد ان مجتمعاتنا العربية بالطريقة التي تدار بها الأمور فيها لا تقدم له الأفق الذي ينشده للتعبير عن توقه وطموحاته.
إذا كان هناك من حرصٍ على استقرار مجتمعاتنا وتطورها الآمن ومصلحة أبنائها، فان المطلوب، الآن وليس غداً، البدء بخطوات حاسمة في اتجاه إعادة صوغ العلاقة بين الدولة والمجتمع، بالإصغاء إلى ما تقوله الملايين في الشوارع اليوم. غداً سيفوت الأوان.