كثيرون من الكتاب والمبدعين والفنانين من سقط في إغراءات المنصب السياسي. وكثيرون حاولوا الموازنة بينهما بالرغم من صعوبة امتطاء حصانين في وقت واحد كما يحلو للروائي المكسيكي والدبلوماسي الشهير كارلوس فوينتيس ترديده. وقد يبدو بالإمكان التوفيق بين المهنتين في كل الأوقات، غير ان ذلك يصبح أمرا صعبا مع الأيام والتجربة الحياتية المباشرة.
ومع ذلك تقلد بعض الفنانين المناصب العليا وتقديم أسماء يجعلنا نملأ الصفحات دون جدوى من بديهية يعرفها القراء كما هو هافل رئيس الجمهورية التشيكية، فهو معروف ككاتب مسرحي كبير. ربما تطمر الأيام صورة هافل السياسي وتبقى مع التاريخ أعماله المسرحية.
ولكن ترى كم من الناس يقدر أهمية الفرق بين الكتابة في الفن والأدب وعالم السياسة؟ ولو لم يكن ذلك حقيقة لما وجدنا كتابا وفنانين يقعون في شراك المنصب السياسي!! وحدهم الأذكياء وذو الحساسية المرهفة يفضلون تحاشي الجمع بين الحصانين وان كانت أحيانا ورطة لابد منها. وقد عرفت البعض من الكتاب والمبدعين والذين لم تغرهم بقوة تلك المناصب الآنية والمتغيرة كما تتغير الرياح الموسمية. الحمقى دائما لا يرون أكثر من أرنبة أنفهم كما يردد البعض ولكن هل كل الحمقى أذكياء ومبدعين؟ ربما ذلك ممكنا فهناك خيط رفيع بين الجنون الواقف عند الخط الفاصل بين الحكمة والتهور ولا ندرك الفرق بينهما إلا حينما نسقط في الهاوية لنؤكد الحكمة القديمة أبدا «التجربة خير برهان».
ما جعلني اكتب مثل تلك السطور هو الرغبة في عرض حكاية مسلية وهامة للقارئ العادي لكي يعيد النظر في مسائل شتى ويقدر كم هي قيمة الأدب والفن كبيرة وتاريخية وأبدية للإنسان بينما السياسة استهلاك عابر يعيش زمنه والوقت الضائع. بين المؤقت والدائم يعيش الإبداعي والإنساني كضرورة لها علاقة بموضوع الحرية. ففي الأيام الأولى من حصول بولندا على استقلالها، في السادس عشر من يناير عام 1919، أصبح اغناسي بادروفسكي «1860-1941» عازف البيانو والموسيقار والاجتماعي والسياسي النشط والمحترم بشكل كبير من كل الجماعات السياسية رئيسا للوزراء للجمهورية الثانية لبولندا. وعندما زار باريس في تلك السنة «التي تم فيها انتخابه وتعيينه» التقى بجورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا لكي يقدم نفسه كرئيس للوزراء للجمهورية الثانية في بولندا. لقد استقبل كليمنصو بادروفسكي بكل دفء وحميمية وبلقاء خاص قائلا له «إن لي الشرف العظيم بأن التقي أستاذ البيانو العظيم». وكان بيدروفسكي -على كل حال- مندهشا بمثل ذلك اللقاء وأوضح إلى كليمنصو:«ولكن، يا سيدي أنا أزورك الآن كرئيس للوزراء «. وبذلك أجابه كليمنصو:«سيد البيانو الآن رئيسا لمجلس الوزراء ؟! أواه, ياالله ماهذا الانحدار !!».
فهل توجد تجربة أفضل من لقاء تاريخي بين سياسي يعشق الفن وفنان تورط بالسياسة؟ كان أجدر فيه ألا يسقط الثاني في متاهة ما سقط فيه الأول. ولكن كم من الناس يدرك العبر ويتعظ بها كلما اقتربت إلى أنوفهم رائحة المقاعد الوثيرة في صالة الاجتماعات الرئاسية، متناسين أن المقاعد تذروها الرياح بينما تظل الكلمات المبدعة محفورة في ذاكرة الوقت والزمن يتناقلها جيل بعد جيل لندرك ان الحقيقة العظمى تتمثل في القول المأثور في البدء كانت الكلمة. وكم من الناس خانوها؟ وكم من الناس قدموا حياتهم على قرابينها المقدسة.
الأيام 30 يناير 2011