على هامش لقاء عمل، اختليت بالممثل المقيم للأمم المتحدة في دولة عربية، واستفسرت منه باستغراب عن سر ذلكم الموقف الحازم الذي تتخذه الأمم المتحدة من الرئيس الايفواري (العاجي) لوران غباغبو، والذي يُعتقد على نطاق واسع أنه خسر الانتخابات ورفض نتائجها التي أظهرت، كما يُعتقد، فوز منافسه الحسن وتارا . حيث أعلنت الأمم المتحدة الأخير فائزاً في الانتخابات، ثم دخلت في مواجهة ساخنة مع الرئيس غباغبو . كان للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون نفسه قسط وفير من الحملة التي شنتها ضد الرئيس غباغبو قبل أن تُتوج ذلك برفض طلب غباغبو سحب قوات حفظ السلام التابعة لها من ساحل العاج، ومن ثم المبادرة للاعتراف بوتارا رئيساً شرعياً لساحل العاج، بينما لا نرى مقدار عُشْر هذا الحماس لإقرار العدالة من الأمم المتحدة حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية وبجرائم “إسرائيل” التي دانتها لجان تحقيق دولية، والأمم المتحدة نفسها التي أصدرت أكثر من 60 قراراً تدين “إسرائيل” وتطالبها بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ،1967 ومنها قرارات صادرة من أعلى سلطة في المنطقة أي مجلس الأمن الدولي .
واسترسلت: من الواضح أن الأمم المتحدة تقتفي أثر فرنسا والولايات المتحدة، اللتين أعلنتا منذ البدء انحيازهما السافر والواضح إلى جانب مرشح المعارضة الحسن وتارا، وأن أمين عام الأمم المتحدة الذي ألقى بكل ثقله خلف وتارا، قد أسهم من جديد في إظهار بؤس وعدم استقلالية الأمم المتحدة في تعاطيها الانتقائي مع القضايا الدولية .
ابتسم الرجل ورد علي بلغة دبلوماسية فيها الكثير من دماثة الخلق قائلاً “الأمم المتحدة تصرفت بناء على الموقف الدولي العام المُجْمِع على فوز مرشح المعارضة الحسن وتارا، فهي لم تكن في وارد أن تشذ عن مواقف فرنسا والولايات المتحدة وأوروبا والدول الإفريقية، التي اعتبرت أن وتارا هو الفائز في الانتخابات، وأن على غباغبو أن يتنحى عن السلطة لمصلحته” . ثم أردف قائلاً “الحق علينا يقصد نحن المسلمين، فهو مسلم بالمناسبة في عدم قيام الأمم المتحدة بواجباتها تجاه الشعب الفلسطيني بسبب تثاقلنا وعدم مبادرتنا للتحرك لاستثمار أي فرصة مواتية لتسجيل نقاط لمصلحتنا على حساب خصومنا” .
طبعاً هو محق بعض الشيء في ما قاله بالنسبة للعجز العربي الرسمي، وعدم نهوض نخبه الحاكمة بواجباتها ومسؤولياتها تجاه قضاياها المصيرية، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني المظلوم، ولكنه ليس كذلك في ما يتعلق بموقف الأمين العام للأمم المتحدة المتزلف والمنحاز للإدارة الأمريكية الحاكمة سواء في القضية التي نحن بصددها، وهي الانقسام الحادث في ساحل العاج بين فريق مؤيد للرئيس غباغبو وفريق منحاز لمنافسه في الانتخابات الرئاسية وتارا، أو حتى في ملف القرار الظني للمحكمة الخاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، والذي حرص خلالها على مواكبة عملية “تخليق” وإخراج القرار الظني بالإكثار من إطلالته العازفة على إيقاعات الموقف الأمريكي والناسخة له . ولعلي أجزم بأنه لولا وجود مصالح أمريكية وفرنسية في ساحل العاج تتصل بالثروات الطبيعية لهذا البلد لكان بقي مصير الانتخابات فيه نسياً منسياً، ولما شاهدنا بالتالي دموع التماسيح على وجنتي كل من باراك أوباما ونيكولا ساركوزي وبان كي مون وهي تنداح على وجناتهم كمداً على مصادرة نتيجة “العرس الديمقراطي” العاجي (!)، ولما سمعنا صراخهم وعويلهم وتهديداتهم لغباغبو بالويل والثبور، إن هو لم يسلم مقاليد السلطة لصديقهم الوفي نائب الرئيس السابق لصندوق النقد الدولي، وصاحب الطموحات الانفصالية المسؤولة، بجانب دكتاتورية غباغبو، عن التخريب الذي لحق بساحل العاج منذ انتهاء عهد الرئيس هوفويه بوانيي .
واقع الحال يقول إن الولايات المتحدة التي ظلت تعتبر دول أمريكا اللاتينية بمثابة حديقتها الخلفية منذ مطلع القرن العشرين، وترعى حكامها الموالين لها ولمصالحها، الذين تحدث عنهم ذات يوم أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي قائلاً “إننا ندعم أوغاداً”، حتى تساقطت هذه الدكتاتوريات السوداء الواحدة تلو الأخرى في العقدين الأخيرين من الألفية الثانية، وحولت اهتمامها وتركيزها إلى منطقة الشرق الأوسط لتكون فناءها الخلفي البديل .
وأما فرنسا فإنها لا زالت تعامل الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية، وكأنها حديقتها الخلفية، حيث ترعى، سواء من خلال وجودها العسكري أو نفوذها الاقتصادي، عدداً من الحكام الموالين لمصالحها .
وإلى ذلك، فإنه حتى بعد مرور خمسة وستين عاماً على إنشاء النظام الدولي تحت مظلة الأمم المتحدة، وإبرام العديد من الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق الدولية المنظمة للعلاقات الدولية، فإن الغرب لا زال يتعامل مع بلدان “العالم الثالث” بذات العقلية الاستعمارية . . عقلية الهيمنة والاستغلال .