يقول الإمام علي: «ما دخل الفقر قرية إلا وقال للكفر خذني معك».
ويقول:«عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه».
****
الجوع يدخل في نسق الفقر. وبالفهم الحديث، يمكننا أن نقول أن الجوع يدخل في نسق الفقر والحرمان والبطالة والقهر والظلم والإحباط والفساد والاستبداد والطغيان . إنها تركيبة مدنية شديدة التعقيد وحالة إنسانية شديدة الإرباك .صعوبة تأويل الحدث التونسي تأتي من صعوبة فك هذا التركيب.
الشاب التونسي»الجائع»، الذي أشعل بجسده ثورة «الجياع»، هو نتاج هذا التعقيد وهذا الإرباك. الحالة الـ«بوعزيزية» وتداعياتها، لا تزال تُربك، ليس فقط الأنظمة التي باتت تخشى «من لا يجدون قوت يومهم»، أن يخرجوا شاهرين حريق أجسادهم عليها، بل لا تزال تُربك أيضاً الفقه الديني، الذي تورط في سؤال الحكم والتشريع.
****
هل يمكن للفقه الديني أن يسعفنا فعلاً في فك هذا التعقيد لإصدار الحكم عليه؟ هل يمكن أن يفهم حالة الإنسان وسلوكه في مثل هذا السياق المركب؟ هل «قتل النفس أو حرقها» في مثل هذه الحالة المعقدة يعد انتحارا بالمعنى الذي يحرمه الفقه؟
الإرباك الذي وجد الفقهاء أنفسهم فيه إزاء هذا الحدث، لا يُظهر أن الفقه الديني يمكنه تقديم تفسير وتفهّم وتحليل تعقيدات حالات الدولة أو حالات الإنسان في الدولة. وهذا ليس ذنبه في الحقيقة، فالفقه ليس وظيفته تقديم تفسير أو تحليل أو قراءة أو تفهم أو تعاطف للأحداث، هو مختص بإصدار حكم على الفعل الفردي كما يقره النص الديني. الفقه محكوم باستنطاق النص لا باستنطاق الواقع، حتى في أقصى حالته المقاصدية «فقه المقاصد».
ولعل هذا يفسر لنا ما أثاره التعاطف الذي أبداه بعض رجال الدين مع البوعزيزي، من جدل ديني وسياسي ومجتمعي كبير تحت عنوان «توظيف الفتاوى سياسيا وإخضاعها للظروف التي يعيشها البلد والموقف السياسي فيه». الفقه ليس مقبولاً منه إخضاع الفتاوي لظروف البلد والمواقف السياسية، أي ليس مقبولاً منه إسقاط الواقع على النص، بل النص على الواقع.
بعض الفقهاء الذين لاحقهم سؤال الجمهور:« ما حكم البوعزيزي؟»، لجأ إلى تبرير الظروف القاسية التي «أدت إلى غيابه عن الوعي وعرض نفسه للموت عن غير عمد، وهو ما قد يشفع له في رحمة الله الواسعة». الشيخ القرضاوي لم يُخفِ تعاطفه وترحمه ودعائه بالمغفرة، ونبه أن «الحكم بعد الابتلاء بالفعل غير الحكم قبل الابتلاء» «1» ..
****
ما الحكم الشرعي للبوعزيزي؟ هل نحن أمام حالة خلط أنساق هنا؟ يمكننا أن نقول أن المشكلة التي وجد الفقه الديني نفسه واقعاً في بلبلتها، تعود إلى أن السؤال في هذه الحالة ليس من اختصاصه أصلاً، بل من اختصاص فقه الدولة. كيف؟
الفقه الديني علم يشرع للفرد ما يجوز وما لا يجوز والحلال والحرام، وفق نص ديني غايته فوز الإنسان في الآخرة. وتشريعاته المتعلقة بالدنيا ليست غايتها الدنيا بل الآخرة. فهو إن شرّع للفرد في الدنيا فعينه على الآخرة. لم ينشأ علم الفقه في رحم الدولة الحديثة، لذلك ليست لديه تشريعات لحالة الدولة المدنية المعقدة والمركبة والمنتقلة من حال إلى حال «الدولة في معناها المعجمي هي الانتقال من حال إلى حال»، ولا يمكنه أن يشرع لفقهها الدستوري، ولا أن يشرع لأنماط الاحتجاج السياسي وحدوده في المجتمع السياسي أو المدني الحديث .
والفقه وإن توفر على أحكام تخص الدنيا فإنها لا تتجاوز الحدود الدنيا «العبد وابتلاءاته الدنيوية»، ولا يمكنه أن يتجاوز هذه الحدود الدنيا ليشرع للحدود العليا «الدولة بتركيبتها المعقدة والمجتمع الحديث بعلاقاته المتشابكة».
أما فقه الدولة، فهوعلم أنشأته الدولة الحديثة بمتطلباتها وتعقيداتها وتحولاتها. وهو من اختصاص الفقهاء الدستوريين. يضعون التشريعات المعنية بقضايا الشأن العام، والقوانين المنظمة لعلاقة الفرد بالدولة والسلطة بالشعب، وفق آليات وضع الدستور في الدولة الحديثة. الدولة بهذه القوانين ليس لديها غاية أخروية. هي لا تبشر بجنة ولا تعد بأن تكون جنة. ولا تدعي أنها تعد إنسانها لفردوس ما. التجارب التي وعدت بذلك انتهى بها الأمر إلى أن تكون نيراناً مستعرة.
فقه الشريعة المختص بنار الآخرة لا يمكنه أن يحكم على نار الدولة أو على نار مشتعلة ضمن أحكام تخص الدولة لا تخص الآخرة.
****
لمن نوجه هذا السؤال إذن: «ما حكم البوعزيزي؟»
نوجهه لفقه الدولة. لأنه فعل احتجاج مدني ضد نظام الدولة الذي أرسى الجوع والفقر والحرمان والبطالة والقهر والظلم والإحباط والفساد والاستبداد والطغيان. النار التي أشعلها البوعزيزي في جسده هي نار الدولة التي أراد أن يكشف سعيرها في الناس. الاحتجاج ليس مسألة فردية.الفعل الفردي يمكن تفسيره على أنه انتحار، لكن الفعل الاحتجاجي العلني يحمل قضية ويوجه سؤاله مباشرة إلى الدولة. فقه الدولة هو الذي يستطيع أن يحكم عليه لأنه مختص بنار الدولة لا بنار الآخرة.
محمد البوعزيزي في فقه الدولة الحديثة، لا يُترحم عليه كما فعل الفقهاء في كأقصى ما يستطيعون، بل ينصب بطلاً وشهيداً ومؤسِساً وأباً لشرعية جديدة في الدولة، ويحفظ تراثه ليصبح تراثاً للأمة، لا للأمة المؤمنة بالفقه الديني، بل تلك المؤمنة بالفقه الدستوري.
****
الشيخ جمال قطب، أستاذ الدعوة في الأزهر يقول إن التصريحات بالرحمة والدعاء «للمنتحر» هي «تطييب خواطر» لأهل الضحية والمتعاطفين معهم: «فليس معقولا أن نقول لهم ابنكم كافر بشكل علني وواضح».
لكن في أغنيته الاحتجاجية، يصرخ زياد الرحباني في وجه الدولة: «أنا مش كافر بس الجوع كافر.. بس الفقر كافر.. والذل كافر.. أنا مش كافر.. لكن شو بعمل.. إذا اجتمعوا فيي كل الأشيا الكافرين». إنه الجوع الذي لا يدخل «دولة» إلا وقال للكفر خذني معك.
هامش:
«1» تصريحات رجال الفقه مأخوذة من صحيفة الشرق الأوسط 20 يناير 2011 العدد 11741
الأيام 30 يناير 2011