فهمت بعد كل هذه السنوات حاجتكم للتغيير وفهمت رفضكم للتسلط السياسي والأمني الضاغط عليكم وعلى حرياتكم، فهمت إلى أي مدى عانيتم من قمع ومن محسوبية، ومن فساد، وبطالة مزرية ومن ضيق نفس الحرية.
فهمت نبذكم للتعددية الديكورية، والانسداد السياسي ولواقع التعبير وحرية الإعلام والصحافة، وفهمت الآن إنها أدنى الصحافات العربية وأكثرها رثاثة على صعيد المهنة والمحتوى، فهمتكم وفهمت إن الشعارات البراقة التي طرحتها عليكم خلال سنوات طويلة لم تغريكم، ولم ترسِ واقعاً جديداً، واعلم اليوم – اليوم فقط اعلم وافهم بأنكم دفعتم ثمناً باهظاً، ودفع الوطن ثمناً أفدح من سنوات التعطيل والتأزم والفقر والبطالة والفساد.
فهمتكم.. وفهمت إن أقارب وقوى وشخصيات انتفعت وتعدت وتمادت وسرقت وفسدت وأفسدت ومنعت من سقى الياسمين من أن يفتح ويزهر، وإنكم عوملتم لا كمواطنين بل رعايا من الدرجة الثانية ان لم تكن العاشرة.
فهمتكم.. والله فهمتكم.. وفهمت إن الفساد هو الخصم الأكبر لكم.. وانه كما ارتفعت كلفة الفساد زاد عدد الفقراء واتسعت معاناتهم.. وفهمت بان أوجه الفساد تعددت وشملت وزارات وشركات ومؤسسات كبرى، وأدركت بان خزينة الدولة وجيب المواطن جهتان صبت في قناتيهما الكثير من المرارات والمزيد من ضنك العيش للمواطن.
فهمتكم وفهمت إلى أي مدى عانيتم من التدخلات في التعيينات.. تعيينات المحاسيب وأهل الثقة وفهمت بأن الموازين قد اختلت، فلم يوضع أصحاب الكفاءات والاختصاصات والتخصصات في الصدارة، ولم يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأدركت إلى أي مدى اغتيلت المقاييس وأهدرت المعايير، وأصبحت الأفضلية للطالح قبل الصالح، والفاسد قبل النزيه.
هل تصدقوني حين أقول لكم إنني تفاجأت مثلكم.. وارجو أن تعذروا جهلي بأوضاعكم.. وارجو أن تكافئوني بمعرفتكم بعد أن فهمتكم أخيراً، وأدركت لماذا انقسم مجتمعنا على نفسه بين من يملكون ومن لا يملكون، بين أبناء الأكابر من أصحاب المال والجاه والسلطة وأبناء الشوارع من البسطاء والكادحين وأولئك المقهورين الذين ازدادوا قهراً على الدوام أمام ما طرحناه من شعارات عن تكافؤ الفرص ومجانية التعليم والمواطنة والمساواة وغيرها من الشعارات والمسكنات التي كنتم تبتلعونها قسراً كل يوم.. ومادمت قد فهمتكم جيداً الآن.. وفهمت إلى أي مدى انتم محبطون.. يائسون.. منكسرون، فإنني عليه لن اسمح بان تذهب تضحياتكم هباء أو تترك لدهاقنة السياسة وانتهازييها ركوب موجة المتاجرة بها، ولن اسمح بأن يكون منهج الفساد هو الشائع في كل الأنحاء ليحمي الفاسدين ويسبغ ستره عليهم ويمنح كل واحد منهم شهادة مواطن صالح. وستكون الظروف مواتية الآن لنصلح حالكم ونصلح ما أفسده الدهر..
لن اصادر حرياتكم العامة.. وسأحترم إرادتكم ورغبتكم بالخبز والحرية، ولن تكون هناك ديمقراطية تفصل من اجل تكريس حكم شخص واحد، ولن اسمح بالتعذيب والتجويع.. سأرفض شتى وسائل الإذلال وسأحترم حرياتكم الشخصية وحرية الصحافة ولن أضيق الخناق على المدونات ولن احجب المواقع الالكترونية ولن اجعل أحداً خارج إطار المحاسبة.. ولن اتبع سياسة الأبواب والنوافذ المغلقة وسأتصدى لكل أشكال الفساد حتى إذا كان يشمل الأقارب والانسباء ولن تكون هناك حصانة أو تحصينات وقائية لفاسد أو مفسد أو متجاوز للقانون.
سأزيح ستار السرية والعتمة والانغلاق وسأسمح بفتح الملفات المغلقة من نهب وسرقات وتعديات واعتداءات من الأهل والأقارب وشبكة المنتفعين والمخبرين الذين استنزفوا الاقتصاد واضروا التنمية.. ولن يلغى أي مشروع ولن يعطل أي استثمار لا تتكسب منه العائلة المصونة ولا تأخذ نصيبها منه عمولة أو رشوة أو شراكة صورية أو قسرية.
لم يفت الوقت بعد.. المهم إنني فهمتكم الآن.. والمهم أن تفهموني الآن.. وصدقوني حين أقول إنني تفاجأت مثلكم.. تفاجأت بهذا الحجم من الآلام والآهات والحرمان والمعاناة.. اعذروا جهلي واغفروا لي.. وتعالوا نعمل سوياً لنعيد الاعتبار لقيمة الإنسان.. هذه القيمة التي أهدرت، فقد تعلمت بأنه لا يتبقى للأوطان شيء إذا سقطت قدسية الأرواح فيها، وغابت هيبة الضمائر، وتراجعت قيمة العقول.. صدقوني إن قلت لكم بأنني فهمتكم الآن وسبحان مغير الأحوال.. ولكن اخشى ما أخشاه بان الفهم الآن لم يعد يجدي نفعاً.
صحيفة الايام
26 يناير 2010