ان من الواجب أن اختار وانشر موضوعا عن يوم المرأة البحرينية في شهر ديسمبر من عام 2010 وليس في سنة جديدة تخفي لنا فيها من المفاجآت الكثيرة «الحلو والمر» وعلى مدى شهور كنت ابحث عن موضوعي، عن تلك المرأة التي تستحق أن أقول فيها نصوصا قريبة من القلب، إذ سيتولى غيري من المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدنى وأقلام خصصت نفسها للمناسبات!! بتسليط الضوء على نساء عملن في أمكنة مختلفة وأعطين الوطن والتنمية والمجتمع ما يمكنهن فعله وبحجم الظروف المتاحة، ستهتم تلك الموضوعات بمستويات مختلفة من النساء من اجل تكريمهن وبقول كلمة حق فيهن، إذ تستحق كل امرأة في البحرين ذلك التكريم، سواء كان تكريما شكليا مستعجلا أو تكريما حقيقيا تستحقه فعلا تلك المكرمات بعيدا عن روح المجاملة، إذ من الضروري أن تكون هناك معايير وتصنيفات لجهود المرأة البحرينية، التي منحت حياتها للعمل والمجتمع والأسرة وفي النهاية للوطن. كنت أفتش عن موضوعي الحيوي، فإذا به يقف أمامي منتصبا كتمثال، كانت هناك «فاماه» واقفة بعكازها وشيخوختها عند مسجد أبي بكر في العشر الأواخر، تنتظرنا أنا وأخي لكي تقول لنا تعزيتها القلبية في فقدان شقيقنا الأكبر، كانت لحظاتها صعبة في صيف حار فيما النساء يندفعن مزدحمات نحو الصلاة، ومع ذلك غفرت لنا تأخرنا لتقول كلمتها الجميلة «انتم عيالي» فهل قليل على أم الحي كله وتاريخه أن نقّبل رأسها احتراما في تلك الأمسية الحزينة. امرأة عرفتها كل زاويا الحورة وجدرانها وبيوتها الناعسة في صيف رطب، كنا نقضي صبية وفتيان أمام بابها في ذلك الزقاق، فتندفع أصواتنا لها في الداخل وهي جالسة تطبخ وجبتها، بيت ظلت «المرفاعة» فيه تحتضن الصافي المقلي، ليتسلل بعضنا ويسرق تلك السمكات من بيت امرأة كانت تكدح طوال نهارها من اجل لقمة الأطفال، الذين تركهم المرحوم فجأة في عنقها وهي في ربيع شبابها، كان كل شيء في حياة «فاطمة» يانصيب، فزواجها وهي صغيرة يانصيب، إذ لم تكن تدري أين يسوقها قدرها؟ وكيف ستنتهي محنتها كأرملة في عمر مبكر وبدزينة من الأطفال.
كيف كان عليها أن تواجه مأساة الفقدان في أزمنة بعيدة؟ حيث لا توجد مؤسسات خيرية ولا مجتمعية ولا صناديق ولا حتى راتب شهري للتقاعد، كل ذلك في بحرين الأمس كان معدوما، وعلى المرأة / الأرملة أن تتقبل وضعها الهش والمطحون في طين المعاناة، بموقف صلب الإرادة، صامت الملامح ودون ادعاء، موقف مكابر وجليل في كيفية إطعام وكسوة أطفالها في بيت بسيط في كل شيء إلا تلك البقرة الحلوب، التي صارت احد الأعمدة الهامة لساعد فاطمة العنيد وإرادتها الحديدية. مثل كل جيلها من النساء ستذهب فاطمة لبيت زوجية لم تكن تختاره أو بإمكانها أن ترفضه، فهكذا كان زواجها يانصيبها الأبدي لرجل لن تعرف كيف سيكون شكله وطبيعته وطباعه.
السعادة كانت مفردة هلامية في ثقافة مجتمع الأمس، والتعاسة مفهوم مجرد وقاموسي اعتدن عليه نساء البيوتات الفقيرة، فكن يضحكن ويعملن ويثرثرن دون خوف أو خشية من الغد القادم، إذ تركن مصيرهن لجملة واحدة هي «رحمة الله» فهي التي تظلل سقفهن البائس حتى وان نام الصغار يتضورون أو يشعرون ببرد قارس. كل شيء على الكفاف والجفاف في بيت فاطمة الصبورة المعاندة، فكان عليها أن تفكر بمهنة إضافية إلى مهنة بيع الحليب من بقرتها للجيران، في زمن لم يكن فيه «الهوم دليفري» home delivery واقعا حاضرا كما هو في يومنا، حيث في كل زاوية هناك خدمات متنوعة، وحدها ابتكرت فكرة تقديم خدمات لكل بيوتات الحورة بطريقتها السلسة وبطيبتها النادرة وبقلبها الفياض بالمحبة، بأن تحمل قفتها من الصباح الباكر في زحمة الشتاء وقسوة الصيف، فتمضي مشيا على أقدامها من الحورة حتى سوق المنامة، تاركة خلفها الشمس نائمة في بحر الحورة من جهة الشرق، مستمتعة بخيوط الصباح الفضية الأولى وهي تجرجر نفسها نحو السوق للتزود من المئونة حسب الاحتياجات الشعبية والعائلية، فقد كانت الطلبيات متنوعة، إذ لا يمكن أن ينتعش بالثرثرة والنميمة في مجلس «ام فلان» إن لم تكن «حبة الخضرة» والنقل والسنبل وحب الفساد حاضرة لإزجاء وقت عبثي في حوش نسائي تتطاير منه حكايات الأمس الرائع. كانت فاطمة الممول الدائم لتلك البيوت والدكان الصغير المتجول في الأزقة وفي البيت لمن أراد أن يتزود من السمبوسة والروتي، بل وكن النساء يهمسن لها بطلبيات الرازجي والمشموم والياسمين والحناء، بل ولا توجد حدود لما يردن النساء سرا للأزواج والبنات المتطلعات لزوج منتظر، مشموم فاطمة وياسمينها رافقنا عمرا طويلا، إذ عايشتها كيف تقطع تلك الطرقات مثلما تقطع خطاها دروب الحياة الوعرة. كن العائلات ينتظرن صبحا ومساء حليبها، وزوادتها من تلك المؤونة الضرورية لزمن كانت النساء فيه لا يعرفن الخروج بأكثر من مسافة بيوت الجيران، ولم يكن قادرات على الوصول لدكاكين شاحبة وشحيحة إلا من علب الخوخ والكرز والأناناس، والذي لا يمكن شراؤه من تلك الدكاكين إلا عندما يأتي زائر مفاجئ وعزيز من مسافة بعيدة وغير متوقعة.
كنت أراها مثلما كنت اسمع أخبارها في الغربة إنها ما تزال مكابرة برغم خيوط الزمن في وجهها، اختفت تلك النضارة ولكن الابتسامة ظلت تنبع من وجهها قادمة من أعماق القلب، فنساء زمن فاطمة لم ارهن يضعن الماكياج ولا يعرفن الصالونات، فهي بطبيعتها خلقت كادحة وستموت كادحة، عاشت مكابرة وستموت مكابرة تنشر فرحها على كل بيوت الحي. كبرنا نحن مع فريقنا العربي، الذي كان بيتها هو الفرع الثاني للمقر، وكل صبية الحي يجوبون في حوشها أو يقفون أمام بابها المطل على الشارع الرئيسي، ومن هناك ستأتي فاطمة بكل مشمومها وياسمينها وبيعها اليومي لكي «تشكه» بيديها للصبية الذين جاؤوا بالكأس والدرع للحورة، لتقول لهم «رفعتم رأسنا» فيما نحن فرحين برأسها الوفي وهي تنثر على اللاعبين مشمومها وتزغرد وكأنما الحورة في زفاف جماعي لا يتكرر.
ظل المشهد في ذاكرة وأحاديث جيل كامل، حيث انتصارات مباريات الدوري يومذاك تذكرك بعودة جيوش إغريقية من ايثاكا في حروب طروادة. لقد تضوع يومها فضاء الحي المفتوح رائحة مشموم متناثر من يديها وعلقت بعضها على الأعناق، فكان لنا فرحا عظيما في نادي العربي، النصر ومشموم فاطمة. ألا تستحق نوعية فاطمة وساما من طراز مختلف يلتفت إليه النواب ومؤسسات المجتمع المدني فهن موجودات في الأحياء ولكنهن منسيات، ربما لأنهن لا يمتلكن سجلا تجاريا ولا ينتمين للمجتمع المخملي.
صحيفة الايام
25 يناير 2011