ماذا يحدث عندما نلغي ما هو أدنى، باسم ما هو أعلى؟
أعني بالأعلى، ما ننسبه إلى الألوهية أو الآخرة أو المبدأ أو الأخلاق أو الوطن أو القانون أو المُثل أو الحزب أو الجماعة، والأدنى ما ننسبه إلى الإنسان من حياة دنيوية واحتياجات طبيعية ورغبات بشرية، أو ما ننسبه إلى تجاربه من فكر ومعرفة وفهم وممارسة .
نقول أعلى لأن الأولى طالما مثلت في تاريخ حياة الإنسان أصلاً لوجوده، وطالما شكلت مقدساته ويقينياته التي يدير باسمها صراعاته وحروبه وخلافاته، أو يدفع حياته ثمناً لها، أما الأدنى فهي غالباً ما تعتبر وجودات ثانوية يمكن أن يُستغنى عنها ويُضحى بها باسم الأولى ومن أجلها.
في كتابه «هل الرأسمالية أخلاقية؟» يسمي «سبونفيل» إلغاء الأدنى باسم الأعلى ملائكية. الملاك هنا لا يشير إلى مفهوم ديني بقدر ما يشير إلى مفهوم تجريدي، من حيث أن الملاك يمثل حالة «عليّة» في العادة، لكنها كممارسة الغائية، ليست مختصة بالأنظمة الدينية، بل تجدها في الأنظمة الإلحادية والشيوعية وفي الأنظمة القومية والفاشية بنفس الدرجة. فكلها تشترك في الإلغاء، وفي خلط الأعلى بالأدنى، وفي عدم القدرة على التمييز بين مجاليهما. الأمر الذي يترتب عليه تقديم خطاب عقلاني تافه بالمعنى الباسكالي.
****
تبرز الملائكية في مجتمعنا عبر خطابات تلغي إرادة البعض باسم الدين. مثال: في مقتبس من خطاب مناهض لقانون تنظيم مكبرات الصوت في المآتم والمساجد، معتبراً اقرار القانون محاولة لتقزيم للدين، يقول «اذا قزم الدين في هذا البلد وهو أعز ما يكون على مواطنيه الشرفاء الأصليين، فقد قزم كل صوت حر، وألغي كل حق، ووئدت كل حركة إصلاح».
الأعلى هنا هو الدين الذي يمثله هذا الخطاب، والذي يقدم نفسه أنه الصوت الحر، وكل الحق، وحركة الاصلاح في المجتمع. والأدنى الذي يلغيه هذا الخطاب قانون التنظيم، ومن يقول بالحاجة إلى قانون التنظيم. الخطاب ليس فقط يلغي القانون، لكنه يلغي أيضاً كل من يؤيد هذا القانون ويعتبره مقزِّماً للدين، وصوتا غير حر، وحركة ضلال، ولا حق له، ولا شرف، ولا أصل.
كذلك تبرز الملائكية عبر خطابات تلغي الإرادة السياسية للبعض باسم الدولة أو الحكم أو القانون. مثال الخطابات التي توصل رسالة اعلامية مفادها أن «الاصوات التي تدعو لفتح ملفات الفساد وتمارس نقدها العلني للدولة تقوم بالتحريض ضد النظام الحاكم وتبث الكراهية للنظام الحاكم». أو تلك التي تؤكد بأن «عدم إصدار بيان تنديد بشغب الشوارع تحريض على الإرهاب». أو تلك التي تقول «أن رفض قانون معينً يعني التشكيكك في شرعية الدولة والمؤسسات».
الأعلى في هذه النماذج هو النظام الحاكم أو الأمن أو الدولة. والادنى هو المعارض أو صاحب الرأي المختلف. هذه الخطابات ليست فقط تلغي إرادة المختلف وحرية تعبيره عن رأيه، بل تلغي المجتمع المدني والحياة المدنية، وتلغي الحيز العام الذي يصوغ فيه أفراد المجتمع اختلافاتهم ويعرضون فيه حقائقهم ويشكلون فيه رؤاهم المتعددة والمتباينة.
****
هل يمكن أن يقينا الأعلى من الوقوع في تفاهة الخلط؟
نعتقد أحياناً أن الحديث باسم حكمة الأعلى، يمكن أن تكسب حديثنا حكمة وحصانة وحصافة ويقيني من الوقوع في التفاهة والخلط. يمكن القول إن أكثر الحماقات أو التفاهات نرتكبها بسبب هذه الثقة. الثقة في أن الأعلى يمنح كلامنا شيئاً من علوه، حضور الأعلى يغنينا عن حضور الأدنى. يعمينا عن أن نرى الأدنى فنلغيه. ليست الأيدلوجيات فقط من يقوم بذلك، ولا الحركات الأصولية هي فقط من تقوم بذلك، بل حتى المشيخات تلغي الأدنى باسم الأعلى حين تستخدم الأعلى ذريعة لضرب الأدنى، فتقول إن دولة القانون أولى من حق الناس في الاعتراض، وأن الوطن أسمى من الاحتجاج.
التفاهة هنا ليست راجعة إلى أن الأعلى تافه في ذاته، لكنها تعود إلى أن الأعلى تافه في استخدامه، بمعنى أننا نستخدمه استخداماً تافهاً.
ما يجعل لهذا الاستخدام معقوليته وحضوره في وسائل الاعلام وفي الشارع السياسي أو الديني هو غياب الحيز العام. الحيز العام هو المكان الذي ليس في الدولة «النظام» ولا في حيز الأفراد الخاص «الجماعة أو الطائفة». هو المكان الذي يقع بين الدولة وبين الحيز الخاص، يتيح للآراء أن تتداول وتعبر عن اختلافاتها بحرية وبأمان. في هذا الفضاء المفتوح يمكننا تعرية التفاهات وكشف الخلط الذي تمارسه هذه الخطابات على اتباعها.
الحيز العام إذا ما تم التضييق عليه من قبل السلطة السياسية أو الدينية، كثرت التفاهات التي تضج بها خطاباتنا الدينية والسياسية والاجتماعية.
وكلما تم الغاء الحيز العام باسم الدولة، تراجع الأفراد إلى وكر حيزهم الخاص، وصار متنفسهم جماعتهم أو طائفتهم، وصارت هي «الأعلى» بالنسبة لهم، التي تلغي كل ما سواها.
****
هل الملائكية انتصار للأعلى؟ هل تعزز وجود الأعلى؟ أي هل الغاء الانسان باسم الله يعزز وجود الله، والحياة الدنيا باسم الآخرة، والفرد باسم الجماعة، والمواطن باسم الوطن، والعامل باسم العمل، والتعددية باسم الوحدة؟
على عكس ما تتمناه الملائكية، فإن الغاء الأدنى هو الغاء للأعلى. فإلغاء الإنسان هو الغاء لله. لأن وجود الله مقترن بوجود الانسان الذي هو صورته التي تشبهه على الأرض. الله لا يُعرف إلا بمعرفة الإنسان. كذلك الغاء المواطن باسم الوطن هو الغاء للوطن. لا وطن بلا مواطن. وكل ما يتعلق بالمواطن هو عينه ما يتعلق بالوطن.. وهكذا.. إلغاء الأدنى باسم الأعلى، يجعل الأعلى يبدو وكأنه وجود اقصائي قاس بغيض غاضب شرس دموي عنيف. في حين تعزيز قيمة الأدنى باسم الأعلى يجعل الاعلى يبدو متسعاً محباً رحباً متسامحاً ومثالياً. فما ترانا نختار؟
الأيام 23 يناير 2011