قبل أن تستقبل كنيسة الإسكندرية شظاياها وجثثها وضحاياها كان العالم يحتفل بتوديع عام 2010 بأمنيات كبيرة وصغيرة، يكون فيها الشعب التونسي هو أكثر من استقبل هدايا ثمينة لا تقدر، هدايا ليست قادمة من سانتو كروز ولا منظمات خيرية غربية ولا عالمية تفرح قلوب ضحايا الفيضانات في استراليا والبرازيل ولا موتى هايتي، إذ بعد أن نكبهم الزلزال استلمتهم الأوبئة فكانت الكوليرا حاضرة ولكنها ليست على طريقة ماركيز وروايته عن الحب في أزمنة الكوليرا، وإنما كوليرا تفتك في الألفية الثالثة، بعد أن اعتقد العالم المعاصر انه قضى عليها.
كانت الهدايا تطير في العالم الغربي عبر البريد، تفتحها العائلات فرحة وسعيدة بدنيا الله المسالمة بروح التسامح، فقراء عالمنا، يضجون تحت وابل الرصاص والدم وقبضات فرق الشغب والسجون والملاحقات، كانت الهدايا هناك والشظايا في العالم العربي والإسلامي تفوح برائحة الدم والبؤس، وكأنما هناك عالمين منقسمين بين الأثرياء والفقراء، تجسدت صورته واضحة في عالمنا نحن، فلم نستلم الهدايا ولا العطايا الإنسانية في بيوت الفقراء والمحرومين، وإنما بعثوا لنا بطرود من المتفجرات والتفخيخ والقتل والإرهاب، هكذا استيقظنا منذ بداية شهر ديسمبر حتى السابع عشر منه، لكي نشهد نهاية فصل الاعتصام والاحتجاجات العمالية في تونس بفاجعة البوعزيزي ليذكرنا احتجاجه بالنار بأنها تشعل نورا كما هي تلك العبادات الزرادشتية التي تمنحنا قبس من نور كرمز للخير في مواجهة الظلام، كانت نار البوعزيزي تشتعل في جسده ولكنها تتوهج في طرقات وأحياء وقرى تونس، تشتعل هناك في الجزائر وجوارها، تنفخ برمادها المتطاير نحو الجغرافيا العربية الساكنة ولكنها المكتومة بالغيظ والغضب، يذكرنا البوعزيزي التونسي بأولئك البوذيون عام 1963 الذين كانوا يحتجون على اضطهاد حكومة سايغون في جنوب فيتنام، فكانت شظايا التعنت الأمريكي وحلفائه في تلك الحكومة تفتك في شعب وثوار فيتنام من السماء والأرض دون رحمة في أقسى حرب تحررية عرفتها حضارتنا في قرنها المنصرم، وكانت الشظايا الفيتنامية – الأمريكية تتطاير في اتجاهات متعددة لتحمل لنا هدايا جديدة معنوية وتضامنية هزت البيت الأمريكي والمجتمع المدني، فتحركت القيثارات غناء وتفجرت الحركة الشبابية العالمية احتجاجا على كل ما يدور في فيتنام، فكانت هدية الإنسانية من فيتنام المتفجرة، بأن طريق النور والحرية لا يمكن أن يشعله القديسون والأبطال وحدهم وإنما هبة شعب متحد بوقفة متماسكة لا تلين حتى آخر المشوار من المسيرة الكفاحية.
كان الدرس الفيتنامي حاضرا في جسد البوعزيزي ولا وعيه دون أن يرتدي ملابس الكهان البوذيين، فقد كان لكفره «السياسي» وتمرده سببا واضحا هو الجوع وانتهاك الكرامة في الأوطان . ما زالت الساعات والأيام القادمة تحمل لنا في صناديق البريد هدايا متعددة الأشكال وشظايا متعددة الأوجه، فنحن بين فردوس الأمل نعيش الحلم ونحن بين جحيم الموت نتوقع الشظايا أن تأتينا من احد الجانبين، شظايا ورصاص السلطة وشظايا الفوضى والإرهاب والتطرف، فتسقط الأوطان تحت قبضة الشيطان المجهول!!
هكذا حاولت فلول الحرس الرئاسي التونسي فعله بعد رحيل الرئيس، لكي تقدم للعالم صورة مرتبكة عن الانتفاضة السلمية المدنية، التي واجهت الرصاص الحي بصدور مفتوحة وإرادة قوية صلبة أقوى من الرصاص . كانت لحظتها الشظايا الإجرامية في مواجهة الإرادة الشعبية، والتي صارت بعد الفراغ السياسي عرضة لتلك الأقنعة والوجوه الملثمة والسيارات المتحركة المشبوهة والعناصر السرية، التي تقاتل في لحظتها الأخيرة بيأس وانكسار وخوف وهروب .
عندما تتفكك الدولة القمعية تواصل في رمقها الأخير الأجهزة الخاصة كحلقة ضيقة في النظام, باتباع سياسة الأرض المحروقة وتقديم صورة مشوهة عن الانتفاضة السلمية بأنها انتفاضة نهايتها الفوضى والخراب، لكي يبدو المشهد لوحة مأساوية وبكائية على المنهزمين، فقد راهنوا على أن تلك الفوضى ستجلب لهم نصرا مجددا وعودة إلى أروقة التعذيب والسلطة، من مارسوا الترويع في الناس ليلا ونهارا في تونس لم يحسبوا حسابا واحدا، أن هذه اللعبة انتهى زمنها، وعندما يسقط النظام فان من الصعب أن تستطيع حلقاته المفككة استعادة رباطة جأشها ولملمة وحدتها «المهنية» فمثل هؤلاء في هذه اللحظة التاريخية يكتشفون انهم كانوا مجرد أزلام نظام تخلى عنهم وكان يدفع لهم أجورا من ميزانية بلد مسروق وفاسد. يصبح مثل ذلك الإنسان لحظتها إما منكسرا حد التكفير واليأس وطلب المغفرة أو يكون حقودا معاديا يواصل تعنته وسلوكه المتوحش لكي يبرهن أنه مخلصا للنظام المنهار والمتفكك وفي ذات الوقت يدافع عن وجوده، تناسخ روحه ووجوده مع الاخر/ النظام القمعي.
في مثل هذه اللحظة تتفكك الفرق الخاصة لحماية النظام وتصبح مجموعات متناثرة تسعى للهروب ولكن دون فائدة ولا مساعدة، منتظرين لحظة الحظ العاثر بين فكي الغضب والانتقام الشعبي والانتقام الذاتي، فيما بينهم إذ يحاول كل طرف تحميل المسؤولية الطرف الاخر.
أخيرا كانت الهدية الكبرى للعام الجديد للشعب التونسي هو خلاصه من حكم لم يكن إلا صورة سوداء في ذاكرته وشظايا مقيتة انتزعت روح 60 تونسيا من الأبرياء، واجهوا القمع بصدر مفتوح وإرادة عنيدة، انتصرت في نهايتها حتى وإن كانوا لن يشهدوا ذلك الفرح مع شعبهم، ولكنهم سيكونون دائما وأبدا في ذاكرته الجميلة كمعنى للبطولة، فالموت يخلق التدمير ولكنه ينتج حياة جديدة رائعة.
أشعار ستخلدهم وأغنيات وشوارع ومنعطفات، ستصبح عنوانا لتلك الأسماء النبيلة من طوابير شهداء تونس الجديدة. البوعزيزي لم يقرأ شكسبير ولكنه عاش مثله هذا الخلود الإنساني حين ردد مثله «يجعلوننا نجوع، وعنابرهم محشوة بالقمح. يصدرون المراسيم للربا، ليدعموا المرابين. يلغون كل يوم أي قانون شرع ضد الأغنياء، ويأتون كل يوم بالمزيد من الشرائع الجارحة، لغل الفقراء وكبحهم. إن لم تلتهمنا الحروب، التهمونا هم» . مأساة كريولانس – شكسبير
الأيام 23 يناير 2011