تحاول الأحزاب والمواقع الدينية أن تمدح أحداث تونس من دون أن تعي الواقع بشكل موضوعي، فلو أن هذه الأحداث جرت في بلد منقسم ومنهك بالصراعات الدينية الطائفية كما هي الحال في الكثير من البلدان العربية والإسلامية لما انتهت هذه الأحداث بسلام وخير وبقفزة تاريخية.
الثورة هي إعصار اجتماعي مدمر، وحدوثه هي عملية خطرة جداً وصعبة.
لكن مرور الاعصار بهذه السرعة والقوة من دون أن يترك آثاراً مدمرة كاسحة هو أمر مليء بالدلالات المختلفة، فعلى الرغم من الخسائر البشرية الجسيمة بمقاييس السكان، وعمليات النهب والتخريب التي جرت من عصابات موالية للنظام السابق، ومن الغوغاء، فإن زوالها بمثل هذه السرعة يعتبر شيئاً تاريخياً.
لننظر كيف تتم الأحداث في بعض البلدان العربية والإسلامية التي عاثت فيها هذه الجماعاتُ تمزيقاً لعرى العرب والمسلمين، ولا تكفي مئات القتلى والكثير من الشهداء من المثقفين الكبار وتعطيل مؤسسات الدول عن إنجاز معاملات المواطنين اليومية وتعطيل البرلمانات ونشر السيارات المفخخة، أن تحرك ساكناً في هذه الشعوب بل حتى أن الحروب الأهلية الطاحنة عجزت عن أن توحدهم وتجعل منهم شعوبا مواطنين لا شعوب طوائف!
ولهذا فإن الدولة التونسية التي هوجمت على أساس معاداتها للإسلام، وذوبانها في الغرب، وما إلى ذلك من أفكار خاطئة، بينت حداثتها العلمانية أن نضالات السابقين التنويريين والتقدميين لم تذهب هباء، وأن الشعب موحد، ووحدته العظيمة هي التي أتاحت له أن يكون قادراً على الحركة التاريخية، ولم تغير حداثته وعلمانيته إيمانه بالإسلام.
على الرغم من هيمنة الرئيس السابق فلم يعن ذلك فساد الدولة الكلي، ولا أن العديد من الموظفين الكبار لم يحافظوا على نظافتهم السياسية. ويكفي أن رئيس الوزراء في عهد الرئيس السابق هو الذي يتولى تجميع القوى السياسية لتشكيل جبهة وطنية لتقود الانتخابات والمؤسسات فيما بعد.
لم تحطم الدولة وأجهزتها، وبطبيعة الحال كانت هناك قوى فوضوية وشعبية حادة، وهذه ظهرت نتيجة دخول الكثير من العامة في الأحداث، وتعبيرهم عن غضبهم ومشكلاتهم وقفزهم لاستثمار الأحداث لمصلحتهم.
لكن تاريخاً من الحداثة والمؤسسات ووحدة الشعب الفكرية السياسية، باعتبارهم مواطنين، ينتمون إلى أحزاب وليس إلى مذاهب وقوميات متصارعة، جعل المناطق كافة لا تحول خروجها للشارع خروجاً عن الوطن، ولنصرة الطائفة وتمزيقاً للخريطة الوطنية.
لقد حاول بعض الأصوات الدينية جر التونسيين إلى سيناريوهات الطوائف وخرابها ولكنها باءت هذه الأصوات بفشل ذريع، رغم كافة الإمكانيات الكبيرة التي سربت خلال العاصفة.
كما أن مدنيةَ النظام وعدم عسكريته كانت عاملاً آخر لهذا الانفضاض السريع المفيد العظيم، فالجيش رفض التدخل وضرب الجمهور، وحافظ على حياده السياسي التاريخي، ولم يطلق طلقة واحدة ضد جمهور الثائرين، ولكنه تدخل في التسوية السياسية وأيدها وفرض النظام لها، وطارد اللصوص والمخربين.
عدم عسكرية النظام هي من الجوانب التي كرسها النظام التونسي الديمقراطي العلماني خلال عقود طويلة، فبنى حياة سياسية مدنية تحديثية، شابها العديد من الأخطاء والنواقص لكنها كانت نموذجية للمحيط العربي خاصة.
ومن هنا كانت تجربة الانتفاضة ثرة بقوتها وبعقلانيتها، وبعدم إيغالها في الخراب، وفي التمزيق السياسي، وعادت الملايين للبيوت والأعمال وكأن شيئاً لم يكن، لكن تكون شيء عظيم، وتأصيل شديد للقانون ولعدم الخروج عليه من قبل السلطات والجمهور، ولتأسيس حلقة أخرى من حلقات تطور الديمقراطية، فهي لا تتوقف عن التطور، وفي كل حقبة تنشأ تحولات جديدة وإنجازات وتظهر أخطاء مختلفة كذلك، والأفضل دائماً أن تحل هذه الأخطاء عبر المؤسسات القادرة على الإصلاح حقاً.
ولهذا فإن ظهور هذه المستويات المهمة في بعض دول شمال افريقيا العربية هي من مقاربة الحداثة، ومن صعود المصلحين والقادة الكبار في هذه المقاربة من دون الخروج عن البنى العربية الإسلامية.
وينبغي لقوى المشرق السياسي الغارقة في ماضيها المحافظ المفتت للصفوف أن تعي هي هذا الدرس قبل غيرها.
أخبار الخليج 21 يناير 2011