ليس بعيداً عن التحركات المطلبية والمعيشية في بعض بلداننا العربية، تجدر الإشارة إلى التوجهات التي يُعلن عنها في بعض الدول بين الآونة والأخرى، لرفع الدعم الحكومي عن المحروقات وسواها من سلع ضرورية، وغالباً ما تثير مثل هذه التوجهات جدلاً واسعاً، بين رفض شعبي واسع، مفهوم ومبرر لها، وبين تبريرات أو تسويغات “اقتصادية” لهذا التوجه، عنوانه إعادة توجيه الدعم، حتى لا تتحول الدولة إلى بقرة حلوب تقدم من المال العام دعماً لمن هم ليسوا في حاجة إليه .
لا يمكن النظر إلى مسألة رفع الدعم هذه بمعزل عن فلسفة اقتصادية رائجة، على المستوى العالمي، تريد أن “تُحرر” الدولة من الالتزامات الاجتماعية الملقاة على عاتقها تجاه المجتمع، وخاصة تجاه الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل.
وحان الوقت لمراجعة الموقف المتطرف الذي أخضع الدولة، للنقد الذي بلغ حد المطالبة بإقصاء دورها، أو في أحسن الحالات، الحد منه إلى أبعد مدى، عندما استشرت أطروحات فعالية اقتصاد السوق والمبادرة الفردية والدور السحري للخصخصة .
ورغم أن بيروقراطية الدولة وبطء أدائها كانا موضوعاً للتهكم والنقد والسخرية منذ زمن بعيد، لكننا عشنا وطراً قريباً ازدهرت فيه المطالبة بإبعاد الدولة عن دورها الموجِه كليةً.
والغريب أن الحديث لا يدور عن السطوة السياسية للدولة واختراقها للمجتمع المدني ومؤسساته، لا بل تغييب هذه المؤسسات ومصادرة أي دور مستقل لها، وإنما يتركز في الحقل الاقتصادي، وحول الخدمات الاجتماعية الضرورية التي تقدمها الدولة لأبنائها في حقول الرعاية الأساسية من تعليم وتطبيب وضمان اجتماعي وخدمات ثقافية وإعانات مختلفة .
ما يميز دعوات مناهضة دور الدولة في التنظير الراهن هو مصادرة مسؤولياتها كهيئة رعاية اجتماعية، في مقابل التأكيد على دورها النقيض لدور المجتمع الذي يفترض التعددية السياسية والاجتماعية، ويصبح بموازاة الدولة ضامناً للتطور الصحي للمجتمعات .
ربما وجب التفريق الواضح بين تلك المجالات التي يتعين على الدولة أن تفسح فيها المجال لدور أكبر للمبادرة الفردية، ولدور أكثر فعالية لمؤسسات المجتمع المدني وهيئاته وشخصياته، وبين تلك المجالات التي على الدولة أن تتمسك فيها بالدور المناط بها، ونعني بذلك مجالات الخدمة الاجتماعية، خاصة في الحقول الحيوية كالتعليم والصحة والتنمية الاجتماعية والثقافية .
يجب إعادة الاعتبار لدور الدولة كمُصحح للفوارق الاجتماعية، وذات مسؤوليات تجاه قضايا مستجدة كالبيئة وإدارة الموارد الطبيعية، وكضامنٍ للتماسك الاجتماعي .