حينما يرحل العظماء.. فان انجازاتهم وابداعاتهم وعطاءاتهم، تظل ماثلة في ضمير الزمن وذاكرة الوطن.. وحينما يرحل المناضلون، فان افكارهم ومبادئهم وكلماتهم، تبقى حية في وجدان الشعوب وعقول المناضلين وطالبي الحرية في كل مكان.. حسبما يجسد يوم رحيلهم علامات مضيئة تتجلى في بلوغها عنان السماء.. وهكذا يظل يوم رحيل شاعر عراق الرافدين العظيم (بدر شاكر السياب).. وهو يوم الرابع والعشرين من شهر يناير عام 1964م، منقوشا في صخرة الحضارة الانسانية.
رحل الشاعر العراقي والعربي (بدر شاكر السياب) بعد ان ترك للعالم العربي إرثا أدبيا ونضاليا ووطنيا ومبدئيا، انصهرت حقائقه في مفاهيم (الثقافة السياسية والفكرية والأدبية والحزبية).. ومثلما يعكس هذا (الإرث) مرتكزات تلك المدرسة الأدبية، والمتسمة بالأدب الواقعي الملتزم، بقصائد عبرت عن معاناة الشعب والوطن، ومكابدة المعذبين والمقهورين، وما حملت في ماهيتها هجاء لـ (الاستبداد السياسي) للنظام الرسمي في العراق.. والنقد لـ (الاستبداد الحزبي) لبعض من رفاق الشاعر.. فان شاعر العراق العظيم قد ابدع بأشعاره المؤثرة إزاء غربته عما اضناه البعد عن الوطن.. واغترابه بما أدى إلى الفراق ما بينه وما بين أهله ورفاقه واحبائه.
ولعل ما ضاعف محنة هذا الانسان.. ومأساة هذا المبدع.. وبؤس هذا الشاعر.. وابتئاس هذا المناضل في غربته واغترابه.. هو وطأة تلك الامراض التي ألمت به وتكالبت على جسده النحيل وهو في ريعان شبابه.. وهي طائلة تلك الحاجة الممقوتة من شظف العيش والفقر المدقع.. الأمر الذي دفع قصر ذات اليد إلى عجزه عن شراء الدواء لعلاج أمراضه، أو توفير لقمة العيش لسد رمق جوعه.. ولكن رغم تلك الاوزار الثقيلة وتلك الهموم الأليمة لحياة بائسة كتلك التي عاشها هذا الانسان العظيم في منفاه وفي غربته اللذين قضى الشطر الاكبر منهما في دولة الكويت في عقد الستينيات.. فإنه أبى ان يطامن الرأس الشامخ، بعزة نفسه وشموخ كبريائه، وثوابت مواقفه ومبادئه، وأصالة جوهره ومعدنه.. صامدا أمام قسوة تلك الغربة الذاتية، وسياط الاغتراب النفسي والاجتماعي.
ومثلما غالب تلك الملاحقات الامنية والبوليسية.. فانه ظل شامخا أمام حواجز التجاهل والتهميش الرسمية لأنظمة الوطن العربي، التي أدارت ظهرها لأحد عباقرتها ومبدعيها، بتجاهل متعمد.
وبحسب ما كان الشاعر والمناضل (بدر شاكر السياب) يستجمع شجاعته المألوفة أثناء حياته، مغالبا ذاك التنكر الحزبي لرفاق دربه في الحزب الشيوعي العراقي.. فانه يبادر إلى إعادة شريط ذاكرته للوراء، ليستنهض (الإرادة الحرة) من معين تضحيات شعبه بمواجهة القهر السياسي والظلم الاجتماعي للنظام العراقي الاستبدادي.. ويستلهم (الحكمة) من جلاء وجادة الصواب لمواقفه الفكرية والايديولوجية.. هو حينما واجه بعض قيادات الحزب الشيوعي العراقي المحافظة والدوغمائية، من اجل جدلية تطوير الحزب طبقا لأصول الفلسفة الماركسية، عبر توجيه انتقاداته العقدية وابداء ملاحظاته الحزبية، حول الجمود العقدي للحزب وإزاء اعطاء الهالة التقديسية لبعض ثوابت الحزب الميكانيكية.. وفي مقدمتها “مسائل دكتاتورية البروليتاريا والمركزية الديمقراطية”.
من هنا سجل الشاعر والمناضل (بدر شاكر السياب) بـ(اطروحاته الحزبية التصحيحية الشجاعة) موقفا حزبيا ديالكتيكيا هو سابق لأوانه، بقدر ما انسجمت هذه الاطروحات الحزبية وافكار المناضل والفيلسوف (جرامشي) مؤسس الحزب الشيوعي الايطالي، وصاحب نظرية (الكتلة التاريخية).. حينما يسترسل (جرامشي) بالقول: “ان دكتاتورية البروليتاريا لا تستطيع ان تعتمد بالدرجة الأولى على النقابيين ولا على الحزب، بل ينبغي لها العكس ان تستند قبل كل شيء إلى الاشكال والمنظمات التي يشعر فيها العامل بابداعيته من حيث هو منتج ويعي قيمته ومستقبله، انها الصورة التاريخية والجديدة لتنظيم العمال.. مجلس العمال”.
لقد رحل شاعر عراق الحضارة.. (بدر شاكر السياب) شامخا.. وبحسب ما اكد قبل خمسين عاما موقفا مبدئيا ثابتا تشهد مفاهيمه بانه (كادر قيادي ماركسي حقيقي بماركسيته الاصيلة) انسجمت هذه (الانتماءات الماركسية) وجوهر مقولة (فلاديمير إيليتش لينين): “اننا نريد شيوعيين واعين وليس دراويش مؤمنين”… فان الشاعر (بدر شاكر السياب) قد نسج أعظم الملاحم الادبية، المتمثلة في دواوينه الشعرية وفي مقدمتها (انشودة المطر، لمن هذا الحديد؟ غريب عن الخليج).. اقترنت جميعها بالنقد الأدبي والسياسي والاجتماعي والحزبي.. ولنا هنا وقفة اخرى مع الشاعر (بدر شاكر السياب) عبر مقالة أخرى، سنتناول فيها قسوة منفاه السياسي، وتخلي رفاق دربه عنه وهو يغالب محنة غربته في اتعس الساعات.
طوبى لأحد أدباء ومناضلي القرن العشرين (بدر شاكر السياب) في الذكرى السابعة والأربعين لرحيله.. وسلام لـ (أبي غيلان) الذي عاش مناضلا شامخا ورحل واقفا على قدميه صامدا.
أخبار الخليج 21 يناير 2011