يركّز كثيرون على أنّ انتفاضة الشعب التونسي كانت احتجاجا على الفقر والبطالة، ويتجاهلون العديد من الأسباب، التي حرّكت الشعب التونسي كله ودفعته إلى الانتفاض… فصحيح أنّ الفقر والبطالة كانا من بين أسباب الانتفاضة، ولكنهما لم يكونا السببين الوحيدين، واقتطف هنا بعض ما جاء في بيانات أحزاب المعارضة التونسية وتصريحات قادتها من مختلف الأطياف والتوجهات، التي تبيّن أنّ هناك أسبابا تقف وراء الانتفاضة هي أعمق وأوسع من أن تنحصر في الفقر والبطالة.
فحزب العمال الشيوعي التونسي، الذي اعتقل النظام البائد الناطق الرسمي باسمه حمّه الهمامي، كان قد أصدر بيانات عديدة جاء في آخرها: “إنّ القضايا التي أثارتها الاحتجاجات الشعبية هي قضايا جدّيّة وعميقة لا تتعلق بالبطالة فحسب، بل كذلك بالاستغلال الفاحش وغلاء المعيشة والتفاوت الجهوي (أي المناطقي) والفساد والظلم والاستبداد، وقد بيّن نظام الحكم أنّه عاجز عن تقديم الحلول المناسبة لهذه القضايا”… أما حركة التجديد برئاسة مرشح المعارضة السابق للرئاسة أحمد إبراهيم فشرحت في بيان صدر عنها أبعاد الأزمة العامة في تونس وخلصت إلى “أنّها أزمة ناتجة عن شعور بالضّيم أمام انسداد مزدوج: انسداد آفاق تمتّع كل فرد من الشعب في كل أنحاء البلاد بنصيبه من فرص الشغل والعيش الكريم في الوقت الذي تستفحل فيه ظواهر الفساد والإثراء الفاحش لقلّة قليلة على حساب المصلحة الوطنية، وانسداد قنوات التعبير والدفاع عن المطالب والتحاور في شأنها فضلا عن قنوات ممارسة حقّ المواطنة وما تعنيه من مشاركة حرّة في رسم الاختيارات ومساءلة المكلّفين بتنفيذها”… وكذلك أقتطف بعض ما جاء على لسان المعارض التونسي الإسلامي زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي في مقابلة صحافية أجريت معه قبيل سقوط نظام بن علي، حيث تحدّث عما كان يُسمى “المعجزة التنموية التونسية” فقال: “في سنوات محدودة ظهر مليونيرات لم يكونوا يملكون شيئا.. كل ذلك وماكينة الإعلام الدولي تترنم بالمعجزة التنموية التونسية. لقد بُحّت أصواتنا خلال عشرين سنة دون أن نحقق نجاحا يذكر في إقناع أحد بأن ما يتراءى أمامهم يتلألأ ليس ماء زلالا وإنما سراب خادع. لقد بحّت أصواتنا لنقنع الناس بزيف هذا “النموذج”، نموذج يناقض نفسه بنفسه… تنمية في ظل نظام بوليسي يقمع المواطن ولا يقف عند حد في إهانته وانتهاك كرامته ويفرض عليه الاغتراب ويكمم فاه قائلا له: استهلك واصمت”!
وإذا أردنا الوقوف أمام معطيات أخرى ومقارنات ذات دلالة فإنّ الفقر والبطالة في تونس كانا يمثلان مشكلتين حقيقيتين، ولكن الفقر والبطالة في تونس ليسا الأعلى قياسا بما هما عليه في معظم البلدان العربية، ومع ذلك فقد اندلعت الانتفاضة الشعبية في تونس قبل أن تندلع في تلك البلدان، حيث نضجت ظروفها الموضوعية واشتدت تناقضاتها قبل سواها… فعلى سبيل المثال فقد كانت تونس في التقرير الأخير للتنمية البشرية في العالم الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تُصنّف ضمن الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة، ولكنها لم تكن تنمية متوازنة ولا عادلة، وبالمناسبة فإنّ تصنيف تونس في هذا التقرير يقع ضمن التصنيف المرتفع ذاته، الذي تقع ضمنه الكويت، مع فوارق أهمها أنّ الكويت بلد نفطي وتونس ليست كذلك، والمؤسف أنّ أحد أسوأ المعايير المشتركة بين البلدين يتمثّل في تقارب درجاتهما ضمن مؤشر مدركات الفساد العالمي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، حيث كانت درجات تونس في التقرير الأخير 4.3 درجات والكويت 4.5 درجات من عشر درجات!
باختصار، صحيح أنّ الفقر والبطالة كانا من أسباب الانتفاضة، ولكنهما لم يكونا السببين الوحيدين، إذ لم ينحصر جمهور المنتفضين في الفقراء والعاطلين وحدهم، وإنما كانت انتفاضة شعبية واسعة شارك فيها العديد من طبقات المجتمع التونسي وفئاته، بدءا من الطبقة العاملة مرورا بالبرجوازية الصغيرة وانتهاء بالطبقة الوسطى، وكانت الانتفاضة إلى جانب ذلك انتفاضة ضد الفساد والظلم والاستبداد المرتبط معا بما كان يُسمى “المعجزة التنموية التونسية”… فلا تنمية في ظل الفساد… ولا تنمية من دون عدالة اجتماعية… ولا تنمية من دون أن يكون الإنسان محورها وهدفها… ولا تنمية في ظل احتكار السلطة… ولا تنمية من دون حرية حقيقية… وهذا أحد الدروس، التي يجب الاتعاظ منها!
صحيفة عالم اليوم 17 يناير 2011