انتهتْ المرحلةُ الخطرة من الأزمةِ التونسية بانتصار سياسي عام للشعب التونسي على النظام الشمولي السابق.
وتنتمي القوى الاجتماعية الكبرى التي برزت على السطح إلى ثلاث: الرأسمالية الحكومية المتنفذة بقواها الاقتصادية وأجهزتها، والرأسمالية الخاصة الحرة المشكلة عبر تنظيمات مثل: الحزب الديمقراطي التقدمي والاشتراكيون وحزب النهضة الإسلامي، فيما تأتي الطبقة العاملة وتنظيماتها أخيراً مثل حزب التجديد الاشتراكي والحزب الشيوعي العمالي التونسي.
فيما تغدو الطبقة الحاكمة الممثلة سياسياً في الحزب الدستوري المهيمنة على المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية، في مواجهة عاصفة لزحزحتها عن الهيمنة الطويلة على الحياة العامة لعقود عديدة، وهي التي انقسمت إلى بيروقراطية الفساد المسيطرة على الخيرات، وتكنوقراط مشاركين لها في الحكم والامتيازات، وحشود من المستخدمين المدنيين والعسكريين، وهي تتطلع بعد رحيل الرئيس السابق إلى توسيع تحالفاتها مع القوى الاجتماعية الأخرى، بعد أن أدت السياسة السابقة إلى تقوقعها في نخب معزولة مهددة من بحر شعبي.
الإلحاح الدعائي على أحزاب الطبقة الوسطى المستقلة وخاصة قواها العلمانية ورفض جماعة النهضة المذهبية السياسية في الإعلام الرسمي، والحديث عن تكوين (جبهة وطنية) هو من أجل توسع قواعد السلطة المتقوقعة سابقاً والمهددة بالاقتلاع التام من قبل شعب عمالي فقير.
وبطبيعة الحال يُفترض أن تكون الجبهة الوطنية المقترحة تضم كل الأطراف، وتنقل تونس لدولةٍ ديمقراطية ذات طابع عريض، وتتجه للتعددية الحقيقية.
وهذا ممكن بعد أن قبل حزب اليسار التجديدي الاشتراكي(الحزب الشيوعي التونسي) خيار الديمقراطية الغربية والتعددية، وبدل اسمه، فيما يظل الجناح المتطرف (الشيوعي العمالي) الذي لعبَ دوراً في التأجيج الحاد مطالباً بتغييرات جذرية تسحق البرجوازية وتُحدث الانتقال للاشتراكية!
إن التعددية الحقيقية والديمقراطية على الطريقة الغربية غير ممكنة في الوقت الراهن بسبب طبيعة الرأسمالية الحكومية التي تمتلك أغلب المؤسسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. فهي لا تريد من القوى الأخرى سوى مساندتها والعبور من المحنة الراهنة، التي تسببت فيها الحكومة السابقة حتى تعيد تجديد ذاتها بنفس المضمون. لكن أن تنتقل هذه القوى الاجتماعية الأخرى إلى الشراكة الكاملة معها والتحول الكلي للمشروع الديمقراطي الغربي، فذلك مرفوض.
ولا تتيح الموارد والقوى الاقتصادية الراهنة والقوى العاملة البشرية أن تتجاوزَ الطبقةُ الحاكمةُ هذا الخيار، فلا توجد إمكانيات تصنيعية متقدمة، وقوى إنتاجية بشرية علمية واسعة، فيقع خيارُها في مستوى رأسمالية حكومية مهيمنة على إنتاج وتصدير المواد الخام الصناعية والزراعية، مع مساندة كاملة من رجال الأعمال.
تنافس الرأسماليةُ الخاصةُ الحكومةَ والطبقةَ الاقتصادية التي كونها الحزبُ الدستوري الحاكم. فثمة جوانب كبيرة تطورت من خلالها هذه الطبقة، ولكن يبقى سقف الدولة هو السوق الأكبر، وهو الذي يتيح المشروعات الكبرى، فيغدو الصراع السياسي صراعاً اقتصادياً على السوق كذلك.
والطبقة الرأسمالية الخاصة لا تنمو إلا بمؤازرةٍ من الطبقة العاملة إلا إذا مضتْ هذه الطبقة الأخيرة في خيارها السياسي الخاص. ويمكن أن يقع ذلك مع تصاعد الهياج الاجتماعي، وعجز الطبقة الحاكمة عن تغيير الحياة المعيشية المأزومة للجماهير.
هنا نجد صورة واضحة للحراك الاجتماعي للدول النامية وهي في سبيل بناء رأسماليتها الخاصة حيث التطور الاقتصادي الوطني والاستغلال وآلام الجماهير معاً.
ولهذا فإن صيغةَ التحالف بين المنظمات السياسية الوطنية المختلفة ضرورية هنا للعبور من مرحلة التفرد الاجتماعي السياسي لأي قوة اجتماعية، وفتح سبل التطور الاقتصادي لمختلف الطبقات، وحل مشكلات النظام السابق العالقة والسير لتعددية حقيقية وتبادل للسلطة بعد حين.
أخبار الخليج 18 يناير 2011