كيف نفهم التفاهة بشكل غير تافه؟
إنها ليست لعبة لفظية، بل لعبة فكرية ومفهوم فلسفي. باسكال هو المنظر الفلسفي لفكرة التفاهة، ويعني بها خلط نسق أو مجال أو مستوى بآخر متمايز عنه. يحدد 3 أنساق متمايزة: نسق القلب، ونسق الذهن، ونسق البدن، من يخلط واحداً من هذه الأنساق بآخر يوقع نفسه في التفاهة. مثلاً، المعلّم الذي يطلب من تلاميذه أن يحبوه لأنه أستاذهم الفاضل الذي يمنحهم المعرفة، يوقع نفسه في التفاهة، لأن المعرفة التي يقدمها تختص بمجال الذهن، فهي مسألة فكرية، والحب مسألة تتعلق بالمشاعر والتقبّل، وجعل الأول شرطاً لحدوث الثاني خلطٌ أعوج وتافه. مثال آخر، أن يخلط صاحب مؤسسة تجارية بين عمله الذي يقوم على طلب الربح وبين غاية أخلاقية أخرى تختص بالوطن، كأن يقول مثلاً: إن الهدف من إرساء هذا المشروع التجاري هو خدمة الوطن والمواطن. أو أن مترشحاً للمجلس النيابي يقول: إنني أرشح نفسي استجابة لرغبة الناس في أن أمثلهم. أو أن ناصحاً يقول لمجموعة من الجياع والمحرومين: جوعكم امتحان من الله. أو أن داعية يقول في وصف زلزال أو كارثة بيئية وقعت في مكان ما من الأرض: هذا غضب الله على الفساد والفسق المنتشر في الأرض. هذه نماذج للتفاهات التي لا تخلو منها الخطابات الاجتماعية.
لكن لماذا نعتبرها تفاهة؟ لماذا لا نعتبرها غشاً أو خلطاً أو كذباً؟
هناك سببان. الأول أن باسكال فيما اعتقد أراد أن يستخدم التعبير الأكثر إيجاعاً لإدانة الخلط والغش والكذب. فالتفاهة لا تخلو من أن يداخلها شيء من هذه المفاهيم. والسبب الآخر، أن مفهوم التفاهة يعبر عن السطحية، سطحية الربط بين الأشياء. فالعقل هو عملية ربط وتركيب، وبمقدار ما يكون ربطك محكماً ومقنعاً، يكون عقلك أبعد عن التفاهة. التفاهة هي الوجه الآخر لعدم القدرة على استخدام العقل استخداماً محكماً. نطلق على الشخص الذي يخلو خطابه من فهم عميق لعلاقة الأشياء أو أسبابها: تافه وسطحي، لأنه لم يمسك بالعلاقات الحقيقية والأسباب الحقيقية التي تنتج مشكلات أو ظواهر سياسية واجتماعية تحتاج إلى فهم عميق.
هل الوقوع في التفاهة مقصود ومتعمد دائماً؟
التفاهة ليست بالضرورة خلط متعمد ومقصود. فالمرجعيات الفكرية التي تتحكم في أذهان الأفراد في مجتمع ما أو عند جماعة معينة، لها دور كبير في الانزلاق نحو الخلط. ليس هذا فقط، بل لها دور في تعميم هذا الخلط وتثبيته ونقله من جيل إلى جيل، أي في تداول التفاهة. التداول بما يتضمن من نشر وتثبيت وتعميم ونقل وإضافة، يعمل على إرساء التفاهة وتأصيلها حتى تبدو عبر الزمن وكأنها حقيقة غير قابلة للنقاش. ربط الزلازل والكوارث الطبيعية مثلاً بغضب الله هو خلط نسمعه في كل مرة نشهد فيها حدثاً مشابهاً، الخلط نسمعه متردداً على ألسنة الصغار والكبار والمتعلمين والأميين فضلا عن الدعاة ورجال الدين. مثل هذا الخلط صار أقرب إلى الحقيقة الدينية في ثقافة مجتمعاتنا. ليس هذا فقط، بل إنك حين تحاول فضح سطحيته وكشفها تُتهم أنك غير مؤمن بقدرة الله وحكمه أو أنك راض على الفساد المنشر على الأرض، وهو خلط آخر وتفاهة أخرى، وهكذا نجد أن تداول التفاهة ينتج، عبر تثبيتها، المزيد من التفاهات التي تنبني عليها.
من هم الذين يمارسون التفاهة؟
ليس البسطاء هم من يمارسون التفاهة، فأولئك تفاهتهم ناتجة عن بساطة وعفوية تخصهم ولا تعتدي على الآخرين، بل غالباً لا يترتب عليها إلزام يمارس سلطته على الآخرين. البسطاء أقرب أن يكونوا ضحية لتفاهات الكبار الذين يديرون خطابهم الاجتماعي والسياسي والديني إدارة لا تحترم تمايز المجالات عن بعضها. تحدثنا في المقال السابق عن الزعيم الاسماعيلي حسن الصباح كيف كان يمارس خلطا بين إرساء نفوذه على أتباعه واستثماره الرغبة باسم الجنة. من يمارس التفاهة هم أصحاب السلطة والقوة والنفوذ سواء في المجال السياسي أو الديني أو الاقتصادي أو الاجتماعي. إنهم أصحاب القوة الذين يملكون صناعة الرأي العام والتأثير فيه. يتأثر به أتباعهم في الشارع وفي السوق وفي المنتديات وفي المساجد وفي المآتم وفي الكتب وفي وسائل الاعلام. كثير من التفاهات يثبتها الإعلام والرأي العام العالمي عبر ما يعيده ويجتره علينا بشكل يومي ليل نهار حتى لا نعود نميز الخلط الذي فيه ويبدو وكأنه ينطلق من نسق واحد.
ما علاقة التفاهة بالاستبداد؟
العلاقة بينهما هي الطغيان. ممارسة التفاهة على سدة السلطة استبداد محصلته الطغيان. الطاغية يخلط بين القوة والمحبة والطاعة. فهو حين يمسك بالسلطة ومقاليد الدولة يريد من الجميع أن يحبه ويثق به ويواليه ويطيعه لأنه الأقوى الذي يمتلك السيادة السياسية. القوة لديه هي الرابط الذي يقتضي أن يقابل بالحب والطاعة وخروج المسيرات ورفع الصور والأعلام التي تنصبه محبوباً للجماهير وأسيراً لقلوبها.
القانون لا يسلم من سيطرة الطاغية الذي يسخره بقوته، فيخلط بين قوة القانون وقانون القوة، أي قوة تسلطه هو على القانون، والتفاهة الكبرى التي يمارسها تتحق حين يخرج طغيانه استخراجاً قانونياً، فيصير القانون الذي مجاله العدالة مخلوطاً بالطغيان الذي مجاله الاستبداد.
ولعل قصة الحاكم الذي جعل جميع وزرائه ورعيته يصدقون أنه يلبس أجمل وأفخم الثياب في الوقت الذي كان عارياً، هو نوع من تفاهة القوة التي تخلط بين القوة والحقيقة، وتمنعك أن ترى بعينك أو تدرك بحواسك غير ما توهمك به القوة أو خاصة القوة أو حاشية القوة، ولم يفضح هذه التفاهة غير طفل مازال يحتفظ بفطرته المتحررة من داء تفاهة الكبار.
الأيام 16 يناير 2011