المنشور

تفريغ العالم العربي من مسيحييه


كيف يمكن قراءة التاريخ الثقافي والسياسي العربي الحديث دون التوقف ملياً أمام الدور الريادي الذي لعبه أخوتنا المسيحيون في مجالات عدة في التأسيس لمشاريع ثقافية وفكرية وسياسية وحضارية مهمة.

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر غامر أخوان من مسيحيي لبنان المتعلمين هما بشارة وسليم تقلا بإصدار صحيفة «الأهرام» في الإسكندرية، التي هاجرا إليها من بلدهما لبنان، لتصبح هذه الصحيفة واحدة من أهم الصحف العربية وأكثرها شهرة لا في مصر وحدها، وانما في العالم العربي كله حتى يومنا هذا.

كيف يمكن التوقف أمام تاريخ المشروع النهضوي العربي دون النظر الجاد في مساهمات شيلي شميل وفرح أنطون، بل كيف يمكن التوقف عند الدراسات المتصلة بالتاريخ الإسلامي والفلسفة الإسلامية دون مطالعة ما كتبه البحاثة المسيحيون العرب حولها، على نحو ما فعل الفلسطيني إميل توما مثلاً.

كيف يمكن النظر إلى الجهد الفكري والنقدي المنسوب إلى العرب دون تذكر ادوارد سعيد، والمنجز الروائي دون التوقف عند إميل حبيبي، وأخشى أن استطرد فلا يتسع المقام هنا إلا لبعض الأسماء، وما فاتنا أكثر بكثير.

من وجهة نظر قومية عربية، فإن المسيحيين العرب هم مكوّن أصيل راسخ من مكونات هذه الأمة، وهم إلى ذلك كانوا وظلوا من حملة مشروع النهضة والحداثة والتنمية في مجتمعاتنا العربية التي تواجدوا فيها، في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق ومصر وغيرها.

ولو ألقينا نظرة على تاريخنا القريب لوجدنا أن الكثير من قادة ومناضلي الحركات والأحزاب السياسية القومية والوطنية العربية التي ناضلت ضد الاستعمار والصهيونية ومن أجل الاستقلال الوطني والوحدة العربية والنهضة هم من المسيحيين، الذين تجاوزوا الانحيازات المذهبية، وناضلوا في سبيل صوغ وبلورة الهوية القومية والمجتمعية الجامعة الموحدة.

في ظروف اليوم تنطلق الغرائز المذهبية والعرقية من عقالها، وتفرض صراعات دامية شوهت بنية مجتمعاتنا، وأعملت سكاكينها في النسيج الوطني لهذه المجتمعات، لتردها إلى جاهليتها الأولى: مذاهب وقبائل وملل تتنازع في ما بينها.

ويبدو المسيحيون العرب هدفاً للقوى المتطرفة التي تسيء للإسلام، من حيث استخدامها اسمه في ما تقترفه من آثام بحق الأبرياء من أخوتنا المسيحيين، على نحو ما حدث للمصلين في كنيسة سيدة النجاة في بغداد التي أزهقت فيها أرواح العشرات، إمعاناً من الجناة في ضرب صورة العراق المتسامح الذي كان، حيث أنتج انصهار مكوناته الدينية والإثنية في نسيج واحد الديناميكية التي طبعت حياته السياسية والثقافية والإبداعية، ونمط المعيش الاجتماعي فيه.

ولا تنجو من هذا الإرهاب الطائفي المعادي للحضارة بلد مثل مصر المجتمع الأكثر رسوخاً واستقراراً عبر التاريخ، التي قدمت المثل الأوضح في التعايش بين المكونات المختلفة، وهي البلد الذي امتلك قدرة مدهشة على دمج هذه المكونات في بوتقة وطنية متماسكة وخلاقة.

الجرائم التي تستهدف المسيحيين في مصر والعراق وغيرهما ترمي، بالإضافة إلى الاستمرار في توتير الأوضاع الأمنية، إلى تفريغ مجتمعاتنا من جزء من مكوناتها، وهذا أمر يستدعي من قادة الرأي العام من سياسيين ورجال دين وأحزاب ومؤسسات مدنية، وقفة جادة لإنقاذ المنطقة وأهلها من هذا المخطط الشرير.