يمكن مقاربة انفصال جنوب السودان عن شماله من أكثر من وجه، فالتبسيط هنا سيكون آفة الآفات.
بدايةً ليس بوسع أحد أن يرحب بمنطق الانفصال، فالكيانات الكبرى تظل هي الأكثر مهابة، خاصة في عالم اليوم الذي توحده آليات العولمة، وتجعله أكثر تداخلاً وتشابكاً، والكيان الصغير مغرياً بالاستهداف أكثر من الكبير.
في الحال العربي الراهن ثمة اعتبارات أخرى أكثر جدية، فالفوضى الخلاقة التي بشرت بها الإدارة الأمريكية السابقة لم تعد نهجاً أمريكياً فحسب، وإنما هي نهج تسيرعلى خطاه قوى أخرى، لا يمكن أن تكون بريئة من الشبهات المثارة حولها، ترمي للدفع بالمنطقة في أتون نزاعات طائفية وعرقية تهدد الموزاييك البشري متعدد الانتماءات في منطقتنا، والذي إليه يعود الفضل في الكثير من أوجه الحيوية التي ميزت مجتمعاتنا العربية، فالتعدد والتنوع مبعث الديناميكية، والأحادية قرينة الجمود.
لا يمكن النظر لاستهداف المسيحيين في العراق ومن ثم في مصر بعيداً عن هذا السياق، فالمطلوب إفراغ الشرق العربي من أحد أهم مكوناته، عبر حمل المسيحيين على الهجرة من بلدانهم، ويمكن لنا أن نفترض سيناريوهاً مفزعاً لا يقل خطورة، هو حملهم على المطالبة بكيانات خاصة بهم تضمن لهم الحماية.
هل هي المصادفة وحدها التي جعلت من الجنوب السوداني الذاهب إلى الانفصال عن شماله ليكون كياناً مستقلاً، هو كيان مسيحي؟
هذا سؤال يجب التوقف أمامه، لا للانسياق وراء غواية نظرية المؤامرة، وهو الأمر الأسهل هاهنا لمن يريد ألا يرى الأوجه المتعددة لهذه المسألة، وإنما للتوقف جدياً أمام مسؤولية الثقافة السياسية السائدة عربياً في التعاطي مع ملفات بهذه الخطورة.
لم يذهب جنوبيو السودان لخيار الانفصال، حباً في الانفصال، رغم معرفتنا بأن بعض قياداتهم يروق لها ذلك، ولكنهم ذهبوا إلى هذا الخيار تحت ضغط حروب فُرضت عليهم ممن يقررون الأمور في العاصمة السودانية، وتحت ضغط سياسة معلنة بتطبيق الشريعة الإسلامية في بلد لا يقطنه المسلمون وحدهم، دون التبصر في خطورة نهج كهذا لا يرضاه الإسلام نفسه.
ليس هذا بعيداً عن ثقافة تتغذى من خطب الجوامع وكتابات بعض من يصفون أنفسهم بالدعاة في التحريض على النصارى، مستخفين بحقيقة أن هذا التحريض يشمل المسيحيين الموجودين بين ظهرانينا: في العراق وسوريا ومصر ولبنان والسودان وفلسطين وغيرها من بلاد العرب، مع ما ينطوي عليه ذلك من تجاهل حقيقة أن هؤلاء المسيحيين لا يقلون عروبة وانتماء لبلدانهم وتاريخها وثقافتها عن أكثر دعاة العروبة تعصباً، بل للكثير من الوجوه المسيحية يعود فضل كبير في التأسيس لمشاريع النهضة الفكرية والسياسية العربية وفي قيادة التيارات السياسية المناضلة من أجل الاستقلال الوطني والوحدة العربية.
لا يصح النظر إلى انفصال جنوب السودان عن شماله، رغم مرارة ذلك في النفوس، بمعزلٍ عن مسؤولية من تعاقبوا على الحكم في الخرطوم في الدفع بالجنوبيين نحو هذا الخيار، خاصة حين يقرن مصيرالأوطان بمصيرالحكام، فيصبح الحاكم مستعداً لمقايضة بقائه في الحكم بالتضحية بمصيرالوطن، والهروب من حل القضايا الكبرى للأوطان عبر الهش بالعصا على الدهماء المجلوبة للساحات قسراً.