لن يفكروا أبداً، لن يتصبروا، إنما فقط سيحترقون بالرغبة». حسن الصباح. رواية آلموت.
ليست دوافع الغضب وحدها ما يتم استثماره عند الإنسان الديني، بل الرغبة أيضاً. فكما أن خطابات الغضب «نجد تجلياتها مؤخراً في أحداث العنف الديني في مصر»، تستثمر دوافع الغضب والاعتزاز والفخر والانتقام والحسد والغيرة وتوجهها وتستخدمها، كذلك يجري استثمار الرغبة.
الرغبة في ماذا؟
الرغبة في الجنة، في معانقة الحور العين، في أنهار الخمر، في القصور الخلابة والحدائق الغنّاء، في متع الحواس ولذات الجسد، في كل ما هو محرّم أو ممنوع. الأعمال الفدائية أو الانتحارية أو الإرهابية «باختلاف محمولات مسمياتها» التي تنشط عند جماعات إسلامية هنا وهناك، ترتكز أساساً على هذا البنك.
الرغبات البشرية الطبيعية التي يجري التعامل معها كمحظورات على الإنسان أن يتعالى فوقها، تستخدم نفسها للترغيب في تنفيذ تلك العمليات. لا يجري الحديث عن «الشهادة» إلا مقرونة برغبة معانقة الحور العين. خطابات الجهاد تجعل الشهادة «وسيلة» للوصول إلى الحور العين «الهدف»: «فما هي إلا لحظة واحدة وتعانق الحور العين». طرفة عين واحدة من شأنها أن تحول الحرام كلّه إلى مباح كلّه.
رواية «آلموت» لفلاديمير بارتول، واحدة من أروع الأعمال الأدبية التاريخية التي نشرت منذ العام 1937، لكنها اشتهرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. آلموت قلعة على جبل شاهق في خراسان بناها ملوك الديلم، استولى عليها عام 483هـ حسن بن الصبّاح، الزعيم الذي يجري وصفه بالداهية واشتهر بشيخ الجبل، ومنها بدأ دعوته الإسماعيلية الباطنية، وقدم نفسه نائباً للإمام المعصوم، وراح يدير عملياته التي طالت أكبر رجال الدولة السلجوقية عدوه الأول، وأرعبت الدولة العباسية. يعتقد أن حسن الصباح هو أول من أرسى أسس الفدائية.
خلال عشرين عاماً سيعمل حسن الصباح على تحويل «آلموت» ليس فقط إلى حصن حماية لا يخترق، بل إلى ما يشبه الجنة. في جانب مخفي من القلعة نكتشف حديقة كبيرة ملأى بأشجار الفاكهة والقصور والجداول والأنهار والأودية التي تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، ونتعرف إلى فتيات صغيرات جميلات اشتراهن شيخ الجبل، وجعلهن يعشن كأميرات مدللات مدربات على الغناء والرقص والعزف والطاعة المطلقة لأوامره وحده. إنه بنك الرغبة. المكان الذي تستثمر فيه الرغبة وتدّخر لوقت معلوم.
وفي وجه القلعة الظاهر سيحرص ابن الصباح على اجتذاب الفتيان بين سن الثانية عشرة والعشرين، شرط أن لا يكون أي من هؤلاء الفتية قد ذاق الخمرة أو عرف النساء أو عاش أي متعة أو لذة من قبل. وسيوكل تدريبهم العسكري إلى يد قادة بارعين، ومعلمين يحفرون فيهم أصول المذهب واللغة والشعر والطاعة المطلقة له. لن يجد شيخ الجبل صعوبة في تحصيل فتية يقدمون أنفسهم بين يديه. الأتباع سيرسلون أبناءهم إلى القلعة إيماناً منهم بابن الصباح وأملاً في تحصيل الشهادة بين يديه.
سيشيع عن نفسه أن لديه مفتاح الجنة، وأنه قادر على أن ُيدخل الجنة من يشاء ساعة يشاء. بهذه الطريقة يتمكن من بسط نفوذه على أتباعه أكثر. «مكانة الناس في العالم تكون وفقاً لاستعدادهم إلى المعرفة. الأتباع كانت تطالب الأنبياء قديماً بمعجزات، وكان عليهم أن يقوموا بها إذا ما أرادوا المحافظة على نفوذهم. كلما انخفض وعي الجماعة كلما عظم حماسة من يحركها».
يقول ابن الصباح. النفوذ يحتاج إلى أتباع بسطاء مؤمنين، وبقدر ما يتمكن صاحب النفوذ من تحقيق رغبات الناس «طلب المعجزات رغبة»، يكون إيمانهم به.
دخول الجنة سيكون مقصورا على من يتم اختيارهم للقيام بمهمة خاصة تتطلب تضحية بالحياة. سيدخلهم جنته لمدة ليلة واحدة. وهناك ستجد حواسهم شهقتها الأولى، ستُسلب قلوبهم وتُسحر ألبابهم ولا يعودون إلا أجساداً تنتظر أمر سيدها بالموت ليعود بها إلى جنة الرغبة. «وإذا ما اقتنع فدائيونا لدى صحوتهم بأنهم ذهبوا فعلاً إلى الفردوس، فسوف يكونون قد ذهبوا فعلاً لأنه لا يوجد أي فرق بين الجنة الحقيقية والجنة المزيفة فحيثما نكون واعين لوجودنا، نكون قد وجدنا… لن يفكروا أبداً، لن يتصبروا، إنما فقط سيحترقون بالرغبة». الرغبة هي الحقيقة الوحيدة التي صاروا يؤمنون بها ويعيشون من أجل أن يبلغوها.
هكذا سيتمكن ابن الصباح عن طريق استثمار الرغبة، من إحكام تنظيمه الحديدي، وتقديم نماذج تلقي نفسها إلى الموت بسعادة ولهفة. عندما طلب منه بعض مبعوثو السلاجقة التنازل عن آلموت والرجوع عن دعوته. اكتفى بالرد أن استدعى اثنين ممن أذاقهم جنته. أمر أحدهم أن يُلقِ بنفسه من أعلى البرج إلى الأرض، فانطلق الفتى برغبة طافحة وجذل ظاهر وارتقى البرج وقذف بنفسه إلى الأرض فتقطع جسده ميتاً. ثم التفت إلى الآخر وسأله: ألديك خنجر؟ فأجاب: نعم، فقال له: اقتل نفسك، فانتزع الفتى خنجره وغرسه في عنقه هاشاً إليه وفار دمه ثم خر صريعا، عندها قال ابن الصباح للرسل بين يديه: أبلغوا من أرسلكم أن عندي من هؤلاء عشرين ألفا هذا مبلغ طاعتهم لي!!
الأيام 9 يناير 2011