تشهد منطقةُ المشرق العربي الإسلامي بروز تناقضات عميقة لأزمنةٍ عتيقة، فهي لم تحلْ مشكلاتها المتأصلة التي بدأت ربما مع بداية الحضارات قبل ألوف السنين.
صراعاتُ البدو والحضر، صراعاتُ الفلاحين والقبائل، تبدو أحد المرتكزات الصراعية الطويلة الأمد.
البدو سكان الصحارى يغيرون ويستولون على المدن والقرى بسرعةٍ كبيرة قبل أن يتحضروا وقبل أن يتطوروا وحين يحصلون على ثمارِ الأراضي والحقول والمناجم والآبار، يتجمدون في عائلاتهم وقبائلِهم وموروثاتِهم، عاجزين عن التطورِ وملاحقة العلوم وقبول النقد والرأي الآخر.
في مدى قرن أو قرنين نرى قفزتَهم من رعي الماشية إلى المدن الباذخة، ويؤبدون كل أشكالِ تراثِهم البسيط لما قبل الرأسمالية، الذي يعودُ هو بدورهِ لبداياتِ الحضارات، فيشعرون بالتناقض بين ما يملكونهُ من معمارٍ باهر، وأدواتٍ هي آخر منجزات العصر، وبين ما يفكرون فيه من أفكارٍ بسيطة وفنون عادية، ويشعرون في قرارةِ أنفسهم بعدمِ قدرتهم على ابتكار الإنتاج العميق، وصنع الأشياء المتطورة.
وأهلُ التحضر البسيط حيث لا تعدو مكوناتهم سوى قرى بسيطة أو مدن صغيرة لم تعرف التمدن الواسع، يتمسكون هم أيضاً بعاداتهم ومستويات تفكيرهم وحرفهم التي تصبحُ أطلالاً، فيتشبثون بالإرثِ والتاريخ وأشباح الماضي.
عالم البوادي وعالم المدن، عالم القرى وعالم الصحارى، إن التناقضات القديمة تستمر تحفر في الحاضر رغم أنها غدت أطلالاً.
انقسمتْ الحضاراتُ القديمة إلى عالم الرعاة وعالم المدن، وهي تعيدُ نفسَها بشكلٍ دائب: بدو وحضر، من دون إعادة صهر لهذين المكونين.
جاء آخرون واشتغلوا في المصانع وفجروا الثروات، ومازالت القبائلُ والصحارى والقرى، تستعيدُ أساطيرَها وملاحمَها بأشكالٍ أمية، لم تحولها إلى إبداعٍ فني وشعر إنساني وتوحيد وطني.
انقسم السومريون إلى أهلِ مدنٍ وبادية، وتبعهم البابليون، حتى جاء العربُ وانقسموا كما انقسم السابقون، لكنهم فقط وسعوا التناقض، وحولوا أمماً كثيرة إلى بدو أو قرويين.
جاءتْ الأقمارُ الصناعيةُ وتكلم الحديدُ واحتلتْ أممٌ قاراتٍ مجهولةً واحتضنتْ شعوباً من مختلف الألوان والأجناس، وكبرتْ بها، ومازال العربُ في عدنان وقحطان.
دخلوا المدنَ وحولوها إلى أحياء قبائل، وإلى أهلِ دينٍ جديد وأهلِ دينٍ قديم، وإلى مذهبٍ هنا ومذهبٍ هناك.
والمكوناتُ الاجتماعيةُ الأخرى تتبعُ عمليةَ عدمِ الانصهارِ هذه، فالنساءُ غير الرجال وهناك هوة هائلة بينهما، المثقفون غير العامة وهناك بحرٌ بينهما تغرقُ فيها الفنونُ والآدابُ والعلوم، والحكام غير المحكومين، و(الأصيل) غير الطارئ.
ما قبل الرأسمالية، أي مكونات العصور القديمة، يصطدم بمكونات الحداثة المنهمرة المكتسحة في كل مكان من الكرة الأرضية، ولم يعد لحروب داحس والغبراء مكان، والذي لا يكيف نفسه مع الحداثة ولا يتطور يخرجُ من مجتمعاته ووظائفه وأرزاقه وعالمه، لم يعد العالم عهد الفرسان والصحارى والمعلقات والبكاء على الأطلال.
عالم يمضي بقسوة شديدة، والرأسمالية لا ترحم، وهي ليست من الأنظمة النائمة عبر العصور، ولا تقبل بضرة، وهي باستغلالها وشدتها الرهيبة لا تأبه بتقاليد الأمم وتواريخها وعدم انسجامها مع بعضها بعضا ولا تأبه بصراعاتِ الطوائف وتصهر الجميع في عواصف تحديثية عاتية.
حين يحاول إقطاعيو المنطقة توظيف العناصر الرأسمالية التحديثية لخدمة عوالمهم لن يستطيعوا الاستمرار في مثل هذا التوظيف، فالرأسمالية الحديثة بنية متكاملة لا تُؤخذ أجزاء وتُترك أجزاء، وقد سبق لروسيا أن حاولتْ ذلك من دون جدوى، وها هي الصين العملاقة تحاول كذلك، لكنها تقبل تدريجياً بعناصر الرأسمالية الحديثة بشكلٍ فيه صعوبة وأزمة لا تُعرف حلولُها ذات المخاطر الكونية حتى الآن.
ولكن العرب ليست لديهم حتى عناصر رأسمالية متطورة وحين يخلطونها بإقطاع متخلف فقد أدخلوا أنفسهم في فوضى تاريخية كبرى.
على بلدان مثل مصر والجزائر أن تقود مثل هذه العملية التحولية كبدايةٍ قياديةٍ وكنماذج يمكن أن تأتي بلدانٌ أخرى بعدها.
أخبار الخليج 7 يناير 2011