المنشور

أغلبية لا تحب الوطن


عدد هائل يحيط بالمواطنين هم العمال الأجانب الفقراء، لا علاقة لهم بحب الوطن أو الاهتمام به.
لا يهمهم ما يحدث، لا تعرف أصلاً ما يحدث، عيونُهم ملأى باللامبالاة أمام ما يجري.

يأتون ممغنطين نحو المادة الثمينة، عقولهم مكرسة حول شروطها وظروفها وإمكانيات خرقها للحصول على أكثر منها، يجثمون في أي شروط عيش، في أي شوارع، في أي بيوت، بهدف أن تبقى من الأجور أرقام كثيرة جزيلة تمد الوطن الحقيقي، الآخر بالحياة، بالوجود، بالتطور، بتغيير أبواب مهترئة وعظام نخرة.
لا مبالاة غريبة تجاه الشارع ونظافته أو وساخته، تجاه التلوث والصراخ والنار والحطام، تجاه الميادين والحدائق، تجاه الشواطئ.
(أنا جئتُ لأنتزعَ مالاً ولستُ معنيا بأرضكم وبلدكم!).

كائنات غريبة فوضوية المجيء، من كل أقطار الدنيا سحبت بمصاصات، تتجمع بأشكال فجة من المصادفة والغرابة: فثمة كائن يعيش في قدسية متعالية، يغطي زوجتَه وبناته بالثياب والأحجبة، وأمامه امرأة حديثة سافرة عارضة للجمال تطلق الموسيقى وتعلم أولادَها وبناتها على الفنون والحريات.

ما يوحدهم هو ضربات المؤجر للزيادة المطردة القاسية في الإيجار ثم ترك العمارة مثل حصالة صدئة تشرب النقود بلا مشاعر مع بعض التحسينات الخارجية الزائفة، لكي تتألق أمام القانون غير البصير، وليستمر امتصاص المعدن الثمين وهذه الكائنات تقاوم هذا العصر النقدي كل يوم بلا جدوى.

الشوارع تفيض، محلاتٌ قذرة تملأُ الدروب بفضلاتها، أرصفة مهترئة، كائنات غريبةٌ مشوهة بعد عواصفِ المعامل والمغاسل والغربة، تأكلُ أي شيء لتبقى تلتهم صحونا من الطحين المغسول بالدهن الكثيف المُعاد طبخه مرارا، كل هذا لا يهم، الجدوى في فيض النقود، هذا السحر الذي جاءوا إليه.

لكن الدراكولا الاجتماعية لا تتوقف عن التهام الضحايا، تفتح أشداقَها لحضورهم، واسعة مثل نيران الجحيم، تأكل الشبابَ والشيوخ والأطفال، تحيل دموعهم وعرقَهم إلى نقد مضيء وورق ملون يطير فوق العالم.

خطوط هواتفِهم تشتغل مع الخارج، الذبذبات الحارة موجهة إلى الأوطان الحقيقية، تعيش بأجسادها المضناة المحروقة الملسوعة المقطوعة وأيديها المحروقة في التنانير والأفران والمسالخ، وخطوط نقالاتها تبقيها في الأوطان النائية، وراء البحار، ترفرف هناك بأرواحها، تسمع صرخات الأطفال ومشكلاتهم وأوجاعهم، وهي تمضي بالباصات تحادث المزارع والأكواخ والبيوت المهروسة بالضرائب، أو المُحاطة بالسيول المفاجئة والصراعات الدموية، تكلم الأمهات اللواتي ينتظرن المعاشات والشيكات التي تخصم منها البنوك، لحماً كثيفاً، تتوزع أشكال البنوك من كائنات عملاقة أشبه بالديناصورات حتى دكاكين صغيرة تحسب النمل البشري وهو يريق دمه من أجل أطفال ونساء وشيوخ.

صرخات وكلمات حارقة مدوية تنطلق من هذه الحناجر في كل مكان، خيوط الهواتف اللامرئية تشتعل بالقبل الحارة والآهات والتمنيات والانتقادات والشتائم، تسأل عن مزرعة اختنقت، وعن أطفال نقلوا إلى الطوارئ أو غرقوا في الفيضانات، وتنتقل دموع كثيفة عاجزة عن الحراك والسفر، وعن المساعدة، حتى تتجمع في الليل في الظلمات أو الأنوار الحادة لتنسى وتصرف آخر الدموع.

العمارة الملونة من الخارج، الزاهية بالأصباغ الكاذبة، تهترئ من الداخل، تفقد جدرانها ومرافقَها، وحين يخرج المستأجر يكون قد قضى على روحها وشبابها، ولكن صاحب العمل يقول هذا هو العامل الذي نريده قطعة من حديد لا تتألم، وتحضر في الميعاد وتخرج بعد الميعاد، طيعة مسالمة، لكنه لا يبصرها من الداخل وقد نخرت مثل الشقة، لا تعيش إلا بجسد بلا روح، وتعمل بلا فن ولا ابتكار، شكل معبأ بالتضليل، وفي أي لحظة من غفلة تلتهم يدها ما في الخزانة من تعب سنين وتفر في لمح البصر وفي نوم المطارات والملفات والانتربول.

البلد البعيد هناك، الوطن الحقيقي الحبيب، هو الذي تمضي إليه الآهات والحنين والنقود، لا يرى إلا إياه، فلا يشعره أحد هنا بأنه جزء من هذا الوطن، فهو مجرد آلة غير محبوبة مكروهة جاءت لتقدم مهمة ما وتمضي بعد أن تأخذ حصتَها من المعدن، لا أحد يسألها عن نظافة الزقاق الذي تعيش فيه، ولا حتى عن صحة القطط والكلاب، لا أحد يعبأ بقصتها ومعاناتها، واليوم مبارك حين ترحل وقد ملأت جيوبها من قلوب الأطفال وآذان النساء الذهبية!

 
أخبار الخليج 6 يناير 2011