لا استطيع أن افهم حقيقة الصدمة التي أحدثها التقرير الأخير الذي رفعه ديوان الرقابة المالية والإدارية، ضمن سلسلة تقارير اعتاد الديوان إصدارها في مثل هذا الوقت منذ العام 2003 حتى الآن، الكثير ممن التقيتهم أو ممن أفصحوا عن رأيهم عبر وسائل الاعلام اعتبروا التقرير حدثا صادما وكأنه يحدث للمرة الاولى، متناسين ان التقرير هو السابع ضمن سلسلة تقارير تميزت بالحرفية وغزارة المادة سنة بعد أخرى، حيث حرص القائمون على الديوان على التوسع في مجال عمل الرقابة على الوزارات والهيئات والشركات التابعة للحكومة، وانهم كانوا يتحرون الدقة والحرفية فيما يقدمون من تقارير وبحسب ما تتيحه ظروف عملهم وملابساتها التي لا تخفى على أحد، على الرغم من خلو التقريرين الأخيرين تحديدا من بعض القضايا الكبرى التي لم تتم ملامستها لا من قريب ولا من بعيد رغم أن بعضها معروض على المحاكم داخل البحرين وخارجها، وكان أجدى لو تطرق التقرير للتعاطي معها من منطلق رقابي بحت خاصة وان تلك القضايا كما يعلم الجميع لها تداعيات مالية خطيرة مازالت قائمة على شركات وجهات حكومية معروفة، واجد ان مسؤولية الديوان لا تنحصر فقط في عرض التجاوزات وإنما في المطالبة بتقديم من يتلاعبون بالمال العام للمحاكم ولجان التحقيق ومتابعة ما أنجز من إصلاح فيها.
باعتقادي أن الصدمة التي أحدثها التقرير لدى الناس والشارع بشكل عام، هي صدمة مؤقتة وستزول قريبا، حيث يعوّل بعض المسؤولين في الدولة ونواب الشعب على قصر ذاكرة الناس في هذا البلد وتراكم القضايا فوق بعضها دون حلول جدية، وهي انما تحدث بسبب فترة الانقطاع الطويلة التي لم يلامس فيها مجلس النواب تلك التقارير بالصورة المطلوبة، فقط نذكر أن آخر ثلاثة تقارير لديوان الرقابة حبست عنوة في ادراج اللجنة المالية والاقتصادية السابقة حتى تفضل علينا المجلس وتداعى لمناقشة تلك التقارير الثلاثة بكل ما حملته من فساد وتجاوزات وتعد على المال العام وخرق فاضح للقوانين في جلسة سريعة وخاطفة من بين آخر جلساته قبيل انتهاء الفصل التشريعي المنقضي كتوطئة لإبراء الذمة قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة، وكأن المجلس بجميع كتله كان يؤدي واجبا ثقيلا بكل أسف، حيث لم نسمع حينها عن أي نوع من المساءلة أو لجان التحقيق حيث لم يسعف الوقت كتل الفصل التشريعي المنقضي وهم الذين استغرقوا الكثير من وقت المجلس في مناكفات بائسة انستهم أولويات الناس والبلد، واكتفى المجلس حينها برفع توصياته الى الحكومة وكفى الله المومنين شر القتال!
بنظرة سريعة على التقرير الأخير نستطيع ان نقول ان معنى تكرار المخالفات ذاتها في أكثر من وزارة وجهة حكومية هو خير دليل على ما ذهبنا اليه من إهمال في الجانب الرقابي، على الرغم من ان المجلس السابق شكل ما مجموعه 12 لجنة تحقيق وأضاع الكثير من الوقت في ملفات معظمها لا تعني الناس ولا الاقتصاد ولا التنمية، وحتى تلك التي جاءت على جانب كبير من الأهمية كلجنة التحقيق في أملاك الدولة نرى ان المجلس اكتفى فيها برفع توصياته الى الحكومة فقط، على امل العودة اليه مجددا.
الرد الرسمي المعتاد تجاه نتائج التقرير وما عرضه حول الأموال والثروات والجهود والأراضي والممتلكات والفساد المستشري يجيء عادة على نمط واحد لا يتغير لدراسة نتائج التقرير لوقف التطاول على المال العام! بعدها لا نجد شيئاً مع ان الأمر واضح أمام الجهة الرسمية فقط نحتاج الى مساءلة مباشرة لكل من فضح التقرير ممارساتهم وتقديم من تثبت عليهم تلك التجاوزات الى المحاكم وعلى قاعدة المتهم بريء حتى تثبت إدانته! ولأن الأمر هكذا فإننا لا نجد تطورا ولو محدودا في أداء تلك الجهات الرسمية من وزارات وهيئات حكومية، بل نجد تكرارا واصرارا على المضي في تلك التجاوزات عاما بعد آخر وكأن ذلك تجسيد للمثل القائل «المال السائب».
كل تلك الأرقام المفزعة والتجاوزات الفاضحة والحقائق الصادمة حول التعدي على المال العام، وثقت في تقرير رفعت منه نسخ ثلاث الى جلالة الملك والى سمو رئيس الوزراء والى مجلس النواب وقرأه الناس عبر ملاحق أفردت لها صحافتنا المحلية مساحات واسعة، كما اننا لا نحتاج لان يعبر نوابنا الأفاضل عن طلب اجتماعات طارئة وهم الذين لم يجدوا في كل ما جاء به التقرير مهماً للمناقشة ولو من باب الاعتراض على هكذا وضع مخيف تجاه المال العام، وهم الذين لم يجدوا في برنامج عمل الحكومة الذي رفع لهم الاسبوع الماضي ولا في الموازنة العامة التي رفعت لهم منذ أيام، لم يجدوا فيها مادة تستدعي اجتماع مجلسهم مما اضطرهم آسفين لإلغاء جلسة هذا الأسبوع بحجة ان اللجان لم تعمل بعد، بالرغم من أن المادة من اللائحة الداخلية تعطيهم لو أرادوا حق مناقشة مستعجلة لموضوع ما بطلب كتابي مسبب من خمسة أعضاء تسجيلا للموقف السياسي المطلوب ومراعاة لمشاعر الناس الذين أوصلوهم الى حيث هم الآن نوابا للشعب ومؤتمنين للدفاع عن قضاياه وما أكثرها، وهي قضية لا يجب أبدا ان تنتظر اجتماع اللجان في أهم مؤسسة في هذا البلد!