نلتقي كل يوم في حياتنا بهؤلاء الناس، نجدهم مختلفين في الأعمار والأشكال والجنسيات والثقافات والاثنيات، قد يكونون نساء وكبارا في السن أو أطفال يتجولون من مكان إلى مكان وكأنهم منبوذون أو هاربون من المدارس والبيوت أو أيتام مشردون يعملون لسمسار ومرتزق أطفال، أو انهم يعيلون عائلاتهم من اجل سد رمق الجوع والحاجة، وقد يكون أصحاب هذه المهن الهامشية طارئين في البلاد، عمالة فائضة تملص من مسؤوليتها رب العمل وتخلى عن مسؤوليتهم أو انهم هربوا منه بعد أن وجدوا الأسباب والذرائع في التسيب في المدينة وشعابها، يحتمون بشتى الوسائل والأكاذيب والمراوغات اللاشرعية، يمارسون كل أساليب التضليل والكذب والتحايل الحياتي والمهني، المهم أن يبقى في سوق العمل الواسع، دون رقيب أو حسيب، واللحظة المأساوية والصدفة كثيرا ما كشفت هويتهم لدى البوليس كعثورهم على جثته ميتا أو سقط من عمارة شاهقة وهو يعمل بصورة غير شرعية لدى مقاول بالباطن، أو حتى عند شخص دفعته الحاجة إلى استئجاره كعمالة رخيصة تناسب ذوي الدخل المحدود ونقل إلى المستشفى وهناك بانت حقيقة الحالة المزرية. مثل هذه المهن الهامشية تصنعها دورة العملية الإنتاجية، غير أنها تبقى ضيقة وسرية، محدودة أو واسعة وفق نمط ونوعية المجتمعات النامية والمتقدمة.
لكي لا يتم الخلط بين الظاهرة الاقتصادية التي نتناولها وهي الحرف والمهن وسط الفئات الهامشية، والظاهرة الاجتماعية والثقافية والسياسية للجماعات والطوائف والفئات المهمشة والهامشية في بنية المجتمع، حيث نجدها تتجلى في تلك الأقليات، وقد تكون تلك الأقليات من السكان الأصليين كالهنود الحمر والعبيد السود الذين جلبهم المستعمرين إلى مستعمراتهم قبل قرون، وقد تكون تلك الأقليات المهمشة ثقافيا بسبب تكوينها الثقافي المختلف وديانتها ومذاهبها، أو بسبب البنية الطبقية كما هي حالة المراتبية في الهندوسية في الهند، حيث هناك فئات المنبوذين من السكان الأكثر دونية، وهم وحدهم من يعمل في الأعمال القذرة كتنظيف القاذورات والمزابل والقمامات، وهناك تكوينات عرقية وثقافية متعددة ولا حصر لها، حديثة وقديمة ظلت لفترة طويلة على هامش المجتمع كما هم الغجر في العالم والاثنيات والفقراء والعجزة والملونون.
لهذا يتقاطع أحيانا المهمشون اجتماعيا مع الفئات الهامشية في تعاطيهم للمهن الدنيا والخارجة على القانون، غير إن الفئات الهامشية اقتصاديا، ليسوا بالضرورة مهمشين ثقافيا وعرقيا في مجتمعاتهم، وإنما هم نتاج طبيعي للحالة الاقتصادية والتفاوت الاجتماعي الشاسع بهوته بين الفقراء والأغنياء، بل وتنتج ظاهرة البطالة في الدول المتقدمة والنامية مهن الفئات الهامشية، فهم من الناحية الطبقية والإنتاجية ليسوا إلا فائضا اجتماعيا من السكان، وقوة اقتصادية طفيلية ومهمشة لا تقدم في المجتمع إلا مهنا وخدمات يفرزها الوضع الاجتماعي العام وصراعه وتكوينه المجتمعي.
لم تكن هناك تصنيفات محددة لتلك الفئات المهمشة والمهن الهامشية بعد واضحة بسبب عدم تبلور المجتمع وتطوره صناعيا واجتماعيا، خاصة في المدن النامية والحديثة في ثورتها الصناعية، غير إن تطور المانيفاكتورة «الورش الحرفية في بداية تكون المجتمع الرأسمالي الصناعي» في الغرب، والتي نبعت من الورش الصغيرة ثم تمركزت بها مجموعات حرفية فقدت تلك الحرف بسبب نمو الصناعة الجديدة وصهرت الفارين من فقراء الريف للمدن، حيث الصناعة والتجارة تؤسس لنمو البرجوازية الحديثة والطبقة العاملة الناشئة والتي أطلق عليها الكلمة اللاتينية، البروليتاريا، يومها كانت المدن الأوروبية في ألمانيا وفرنسا وانكلترا تقدم مادة أدبية وثقافية لؤلئك المنبوذين والبؤساء والمشردين كما هم منبوذو وبؤساء فيكتورهيجو ومشردو شارل ديكنز، في تلك المرحلة برز مصطلح باللغة الألمانية يحاول التمييز بين الطبقة العاملة المنتظمة في العملية الإنتاجية والشريحة أو الفئة الاجتماعية الجديدة التي تجوب المدن الأوروبية بحثا عن مهنة يعتاشون منها، بل وفرضت تلك الحالة الاجتماعية قيما وسلوكا وتشريعات جديدة فرضتها تلك الشريحة وأطلق عليها باللغة الألمانية تسمية «اللومبن بروليتاريا»، أي «حثالة البروليتاريا» وبعضهم ترجمها الرعاع أو البروليتاريا الرثة، إذ بإمكاننا أن نتخيل كم هو شكل الناس وهيئتهم في تلك المرحلة الزمنية، غير إن هذه الحثالة نجدها اليوم منتشرة في الدول النامية فتذكرنا بأوروبا أواخرالقرن السابع عشر والثامن عشر، وبرغم المسافة الزمنية بين المصطلح والثقافة والمجتمعات، فإن الدول النامية ظلت تحتفظ بمقومات ومفاهيم وحرف اكثر ارتباطا بقرون سابقة. إنها أشبه بالمأساة الإنسانية، حيث نعيش في زمن الألفية من جهة بكل ما تحمله من تناقضات ومفارقات العولمة، بينما لا تزال هناك شعوب تعيش عند تخوم القرن السابع عشر والثامن عشر.
الأيام 4 يناير 2011