ثار الجدل في الآونة الأخيرة حول موضوع الدعم الذي توفره الدولة للمواد الغذائية الضرورية ووقود السيارات بين مؤيد لتوجهات الحكومة بإلغائه ومعارض لهذا الإلغاء.
من بين الفريق المتحمس لفكرة الإلغاء النائب السابق جاسم مراد الذي سبق الحكومة في طرح وجهة نظره وبجرأة نادرة في مجمل المجالس الشعبية التي يؤمها وأمام معارضة شديدة لهذه الآراء والأفكار من قبل خاصة الفقراء والمعدمين.
تتلخص فكرة النائب جاسم مراد في أن المستفيد الأكبر من الدعم في الوقت الحاضر هم الأجانب الذين يتجاوز عددهم سكان البحرين « عددهم 660 نسمة تقريبا « بالإضافة إلى الفنادق والمطاعم وأنه لو تم توزيع قيمة الدعم على الأسر الفقيرة والمحتاجة لكان مردوده الاقتصادي أفضل.
لا يشكك أحد في نوايا السيد جاسم مراد الذي يسجل التاريخ الوطني وقوفه الدائم مع المحتاجين والمعوزين لكن ما يؤخذ عليه في هذا الموضوع المرتبط بحياة الغالبية من المواطنين هو التبسيط المفرط في تناول مثل هذه القضايا الخطيرة. فالنائب السابق جاسم مراد يعلم قبل غيره عدم قدرة المجلس المنتخب على التحكم في القضايا المالية وبالتالي فأنه لا يوجد ضمان لتأمين صرف وتوزيع هذه الاعتمادات على مستحقيها من ذوي أصحاب الدخل المحدود والطبقات الفقيرة. وحتى اذا ما افترضنا جدلا توفر القدرة على التحكم في قيمة الدعم فمن يا ترى يضمن وجود تلك الآلية التي يتم عن طريقها توزيع هذا الدعم على مستحقيه. وبعبارة أخرى فأنه في غياب الوظيفة المالية لدى المجلس المنتخب فأنه من الصعب بل من المستحيل ضمان التحكم في جهة صرف قيمة هذا الدعم وهي بالملايين من الدنانير.
ولأنه ليس هناك أخطر من التهديد في لقمة العيش فأنه وجب التذكير بالمخاطر التي ستترتب على إلغاء الدعم ومنها زيادة الأعداد التي ستقع تحت خط الفقر وما ينتج عن ذلك من تهديد للسلم الاجتماعي ويؤدي في نهاية المطاف الى تآكل الانتماء الوطني.
ما لم يخطر على البال خروج الناس في شوارع إيران معبرين عن احتجاجهم على إلغاء دعم المواد الغذائية والبنزين ولم يشفع للحكومة الإسلامية أنها واقعة تحت الحصار الاقتصادي الدولي وأن قيمة الدعم الإجمالية تصل الى مليار دولا ر سنويا هذا بالرغم من وعد الحكومة بدفع المساعدة المباشرة للمواطنين الايرانيين. فلقمة العيش لا دين لها والجوع كافر.
ولماذا نستقي العبر والدروس من إيران وتاريخنا القريب يشهد على ما حدث في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي عندما ارتفعت الأسعار العالمية للمواد الغذائية ومواد البناء وأدى ذلك الى ارتفاع كلفة المعيشة وتردي الوضع المعيشي في البحرين الأمر الذي أدى إلى اندلاع موجة عارمة من الإضرابات التي تجاوز عددها السبعة والعشرين إضرابا. وقتها استدرك المجلس الوطني خطورة المشاكل الاجتماعية الناتجة من اختلال الوضع الاقتصادي والمعيشي للمواطنين فسارعت كتلة الثلاث اليسارية والوسط والدينية الى عقد جلسة خاصة بتاريخ 23 يناير 1974 لوضع الحلول العملية الكفيلة بإنهاء هذه التوترات الاجتماعية.
كان من ضمن التوصيات العاجلة التي خرج بها المجلس هو الموافقة على مشروع قانون بفتح اعتماد إضافي فى ميزانية الدولة العامة للسنة المالية 1974 بمبلغ ستة ملايين ونصف بحيث يتم صرف ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف دينار لفروقات الأسعار ومليونين وسبعمائة ألف لرفع الحد الادنى لأجور ورواتب مستخدمي وموظفي الدولة ومن فى حكمهم. وللعلم فأن هذا الاعتماد مثل ما تزيد نسبته على 12% من مجمل الميزانية التي ارتفعت في ذلك العام الى 53 مليون دينار. وحتى لا تكون المعالجة مبتورة فأن الزيادة في الرواتب لم تقتصر على القطاع العام بل أوصى المجلس بأن تراعى هذه الزيادة كحد أدنى بالنسبة للزيادات فى القطاع الخاص على ألا تؤثر على أية زيادات اعتيادية أو أية زيادات أفضل قد تعطى من قبل أية مؤسسة. وفي موازاة ذلك تمت موافقة المجلس على رفع الميزانية الخاصة بالمساعدات الاجتماعية من اجل مضاعفة مقدار الإعانات الشخصية للأسر الفقيرة والمقدمة من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
أما فيما يتعلق بمشاريع الإسكان فقد وافق المجلس على اعتماد ميزانية أكبر من أجل تلبية الطلبات المتزايدة التي وصلت آنذاك الى 3174 طلبا كما أوصى باستصدار قانون ينظم الاستثمار العقاري ويمنع المضاربات فى الأراضي بشتى الطرق الممكنة بما فى ذلك التضييق فى حركة انتقال الملكية.
ما يسترعي الانتباه ويدلل على بعد نظر المجلس آنذاك هو أنه لم يكتفي بتخصيص الدعم للسلع وتعديل الرواتب والأجور وإنما عمد إلى وضع خطة إستراتيجية شاملة من أجل تحقيق الأمن الاجتماعي على المدى البعيد وفيها سن قانون الضمان الاجتماعي وإنشاء بنك عقاري يساهم فى تمويل أصحاب الدخل المحدود لبناء مساكن شعبية وإنشاء شركة صيد وتسويق الأسماك والمساهمة فى المشروع العربي لتربية المواشي فى السودان وكذلك التنسيق مع الدول الشقيقة فى مجال استيراد اللحوم بأسعار أقل وتطوير القطاع الزراعي والتركيز عليه كقطاع يلي قطاع الصناعة والنفط.
ونحن لا زلنا نعيش آثار الأزمة المالية التي تفجرت عام 2008 فإنه لا مناص لنا من الإقرار بأن التضخم المالي قد أدى الى تآكل القيمة الشرائية للدينار البحريني وأن الدينار لم يعد يشتري ثلاثة أرباع المواد التي كان يشتريها قبل عشر سنوات وكل ذلك بسبب ضعف الدولار وارتفاع الأسعار. هذا الاختلال الفاضح في ميزان الدخل والإنفاق ترجمته وبنجاح تلك الدراسة القيمة لكلفة المعيشة التي أجراها معهد البحرين للدراسات والبحوث قبل خمسة أعوام والتي على أساسها حدد الحد الأدنى للأجور ب365 دينارا.
واذا كان مجلس السبعينات قد نجح في توجيه الاقتصاد لخدمة رفاه المواطنين وقام بإرساء قواعد بناء دولة الرعاية أسوة بما كان موجود في دول الغرب قبل سقوط الاتحاد السوفييتي فإن الضرورات الاقتصادية والاجتماعية تتطلب المحافظة على بقاء هذا الدعم وعدم التفريط فيه الى حين توفر الآليات والبدائل الحقيقية التي تضمن عدم العبث بلقمة العيش.
واذا كانت هناك من دروس يجب استيعابها فان علينا أن نتعلم أن القضاء على التوترات الاجتماعية والسياسية لا يتم الا عبر الحلول الاقتصادية والاجتماعية المتمثلة في توفير السكن وإيجاد وظيفة تكفل العيش بكرامة وتزرع الثقة ببناء مستقبل للأجيال القادمة.
ملاحظة: «المعلومة التاريخية مستقاة من كتاب « الحياة النيابية في السبعينات – تحت الطبع».
الأيام 24 ديسمبر 2010