لم تكد مفاوضات التسوية بين السلطة الوطنية الفلسطينية و”إسرائيل”، تنطلق في سبتمبر/أيلول الماضي بوساطة أمريكية (حصرية كالعادة)، حتى أهالت واشنطن نفسها التراب عليها بإعلانها تخليها عن محاولاتها إقناع “إسرائيل” بتجميد الاستيطان لمدة ثلاثة أشهر من أجل تشجيع الجانب الفلسطيني على الانتقال للمفاوضات المباشرة مع الجانب “الإسرائيلي” .
وكان لا بد لهذا الانهيار السريع لمفاوضات التسوية وإعلان واشنطن رسمياً عن عجزها وفشلها في ثني “إسرائيل” عن المضي في مشاريعها الاستيطانية التوسعية، أن يقابل بانطلاق الأعياد والأفراح في “إسرائيل”، حيث سارعت حكومتها للإعراب عن الارتياح لهذا القرار الأمريكي، فيما بدا طاقم رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس الذين لا شغل ولا هم لهم سوى الانسحاق في دوامة المفاوضات التي أدمنوها لحد البؤس، وكأن شلالاً صقيعياً قد صُبَّ عليهم، فاهتزت أبدانهم مقشعرة .
بالعربي الفصيح فإن أمريكا ومعها “إسرائيل” تقولان للفلسطينيين ولكل العرب، وبالفم الملآن، إن المفاوضات هي السبيل الوحيد لإعطائهم أشلاء “الدولة” الفلسطينية الموعودة (على 18% من أراضي فلسطين التاريخية) والتي لا تكاد عملية القضم منها تتوقف يوماً واحداً، ومع ذلك فإنهما قد أوصدتا بابها، أو لنقل، تدقيقاً، أبقتاه موارباً لإبقاء السلطة الفلسطينية مولعة دائماً باستئناف لعبة المفاوضات .
وقد قامتا، أمريكا و”إسرائيل”، عملياً بذلك بشطب أبسط وأول مقوم من المقومات المسوِّغة لانطلاق المفاوضات، وهو المتعلق بتجميد (لاحظ ليس وقف) أعمال الاستيطان في الأراضي المُفترض إقامة الدولة الفلسطينية الموعودة عليها .
الطريف أنه حتى بعد ذلك الموقف الأمريكي الصادم، أو المفروض أن يكون صادماً بل ورادعاً لطاقم السلطة الوطنية الفلسطينية من التمادي في المشاركة في المهزلة التفاوضية منذ تسعة عشر عاماً، فإنه لا يبدو أن شيئاً ما قد تغير في ما يتعلق بموقف أركان السلطة من المفاوضات .
مسؤول فلسطيني توقع أن يتم اللجوء إلى عقد مفاوضات غير مباشرة في واشنطن (!!) . . ما يعني ضمناً موافقة السلطة على المشاركة فيها .
صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين قال الأربعاء 8 ديسمبر/كانون الأول 2010 في القاهرة إن القيادة الفلسطينية تأمل أن تعترف الإدارة الأمريكية بالدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967 .
الواقع يقول إن السلطة الوطنية الفلسطينية ليس لها أي خيار آخر سوى خيار المفاوضات مهما كانت كسيحة، ومهما كان شكلها، مباشرة أم غير مباشرة، وذلك بعد أن اختارت هي بمحض إرادتها حبس نفسها في هذا الخيار الوحيد الأوحد، وذلك نتيجة لارتباط مصير السلطة واستمرارها بتوفر نفقاتها التشغيلية الجارية من مصادرها التمويلية، وهي هنا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أساساً .
وإذا كانت واشنطن قد فشلت في “إقناع” “إسرائيل” بتجميد الاستيطان لخوض المفاوضات المباشرة، فكيف لها أن تقنعها بالانصياع لاستحقاقات السلام في المفاوضات غير المباشرة التي عادت واشنطن لتسويقها عبر إرسال مندوبها جورج ميتشل ودعوات وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون المثقلة بوطء أطنان وثائق “ويكيليكس” .
ثم إننا يجب أن نتخلص من وهم دور الوسيط المزعوم الذي تقوم به واشنطن في “مراوحات” التسوية، فهذا الوسيط ما أن أعلنت البرازيل وبعدها الأرجنتين ثم بوليفيا، الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود ،1967 حتى هرع مباشرة لإعلان توقفه عن مطالبته “إسرائيل” بتجميد الاستيطان لاستئناف المفاوضات معها .
. . في رام الله عقدت مركزية فتح اجتماعاً الأحد 12 ديسمبر/كانون الأول 2010 برئاسة الرئيس محمود عباس لبحث آلية التحرك الفلسطيني في ظل فشل المفاوضات مع “إسرائيل”، وقررت تفعيل المقاومة الشعبية السلمية للاحتلال “الإسرائيلي” في كافة الأراضي الفلسطينية . فإلى أي حد يمكن تصديق هذه النبرة “المنحرفة” ولو قليلاً عن الصراط التفاوضي المستقيم؟
مع أن التكهن صعب، إلا أن موافقة القيادة الفلسطينية وبضمنها أعضاء مركزية فتح أنفسهم، على التعاطي مع مقاربة (لعبة) ميتشل الجديدة (تفاوض غير مباشر على قضايا الحل النهائي)، وتصريحات أحمد بن حلّي الأمين العام المساعد للجامعة العربية لإذاعة “بي . بي . سي” (الأربعاء 15/12/2010) المرتبكة والمتلعثمة لحد الشفقة، تذهب إلى أن السلطة الوطنية الفلسطينية والجامعة العربية ماضيتان في مجاراتهما للعبة الأمريكية إلى آخر شوطها الذي لا تبدو له نهاية .