منذ سنوات أطلعني صديق تونسي كان مقيماً بالإمارات على نموذج من أسئلة امتحانات الثانوية العامة في مادة الفلسفة في بلاده، وقد دهشت من مستوى هذه الأسئلة التي أنا على يقين من أن طلبتنا في الجامعة، لا بل حتى خريجي الجامعة، لن يتمكنوا من الإجابة عنها أو حتى عن بعضها لو عرضت عليهم.
وكان الاطلاع على هذه الأسئلة كافياً لإعطاء فكرة عن مستوى التعليم هناك، وعن مستوى المقرر الذي يدرسه الطلبة في مادة مثل مادة الفلسفة، سبق أن أثير حول مدى جدواها، وعن الفائدة التي يجنيها طلبتنا في الثانوية وهم يدرسون المنطق والفلسفة، ليخلص بعض من انخرط في هذا النقاش إلى أن مثل هذه المواد لا تعدو كونها حشوا لأدمغة التلاميذ بما لا يعود عليهم بالنفع، فماذا يفعلون بالفلسفة وهم ذاهبون إلى سوق العمل التي تطلب منهم مهارات أخرى، من نوع الإلمام بشيء من اللغة الانجليزية ومهارات في الحاسوب وبرامجه.
والنقاش يجب أن يعاد إلى نقطة البدء، فالعلة ليست في مادة الفلسفة، من حيث هي مادة، ولا سواها من مواد مشابهة، وإنما في طبيعة المادة المنتقاة من تاريخ الفلسفة الحافل والزاخر بالمتناقضات والرؤى المتعددة، والأهم من هذا منهج التدريس الذي تقدم به هذه المادة وكفاءة التربويين الذين يقدمونها.
وابعد من ذلك فان النقاش يجب ألا يحصر بسؤال من نوع: هل ندرس الفلسفة في المدارس المتوسطة والعليا أم نلغيها، وإنما يجب أن يدور حول مفهوم التعليم ووظيفته، من حيث هي وظيفة الإعداد السوي للتلاميذ ثقافيا وتربويا وتطبيقيا، أي بمعنى إعدادهم لمواجهة مرحلة ما بعد المدرسة، ومن ثم ما بعد الجامعة، بما في ذلك إعدادهم للعمل وما يترتب على ذلك من التزامات وشروط.
وبالتالي على المدرسة أن تتحول إلى ما يشبه المصهر المعرفي الذي يُكون الطالب، وهذا يتطلب منه معرفة جيدة بالعلوم والرياضيات والتقنيات، وبمقدار لا يقل يتطلب منه أن يحوز أفقاً ثقافياً منفتحاً يعرف من خلاله شيئا من تاريخ الفلسفة والأدب والفكر الإنساني، حتى لا تتراكم عندنا المخرجات السائدة للتعليم، التي تعطي انطباعا أن أفرادها لم يمروا بمدرسة أو جامعة أعطتهم، بالإضافة إلى فك الحرف ومعرفة الكتابة، معرفة ووعيا.
مرة كتب خبير كلفته اليونسكو إعداد دراسة حول تربية المستقبل، عن الهوة العميقة بين معارفنا المجزأة وبين القضايا متعددة الأبعاد التي باتت ذات سمة كونية، ومركبة بحيث يجري وصل مختلف العناصر المكونة للكل كالاقتصادي والسياسي والسوسيولوجي والنفسي والوجداني والأسطوري، وخلافا لرأي شائع يدفع تطوير القدرات العامة للفكر في اتجاه تطوير الكفاءات المتخصصة، وبقدر ما تكون المهارة العامة قوية بقدر ما تكون قدرتها على تمثل المشاكل الخاصة كبيرة، ومن جهته، يتطلب فهم المعطيات الخاصة تفعيل المهارة العامة التي تثير تنظيم المعارف، وتلقي الضوء على كل حالة خاصة على حدة. والخلاصة هي في التأكيد على التداخل القوي بين مسار بناء المعرفة وتفعيل المهارة العامة.