المنشور

العقد الجديد من التاريخ


ينتهي بعد أيام العقد الأول من الألفية الثالثة، حيث جيلنا نحن تحديدا يدخل حقبة العولمة، التي لم تدشن العصر بالانهيارات الكبرى وحسب، بل وبانهيار قيم كثيرة ورحيل أنظمة يصبح فيها «العصر الأمريكي» عصرا متسيدا في منطقة كالعراق وأفغانستان والبلقان وحاضرا كبيرا في اقتصاديات وثقافة آسيا الوسطى، ويصبح العصر الصيني والهندي اخطبوطا للغرب برمته، حيث يشهد القرن الواحد والعشرين صعودا مستمرا للقوة الصفراء، فيما بريق اليابان يتراجع قياسا بمرحلة السبعينات والثمانينات، محاولا أن يبقى قوة ثالثة مؤثرة في المحيط الجغرافي دون أن يلعب دورا سياسيا يتوازى ويتساوى مع حجم قوته الاقتصادية، اللهم ذلك الحضور الثابت في مؤتمرات قارية يصبح فيها ممولا لكل المشاريع الأساسية في التنمية كما هي مؤتمرات أفغانستان والآسيان.

وفي الوقت الذي شهد فيه العقد بروز قوة أوروبية وعالمية جديدة هو تشكيل الاتحاد الأوروبي، نجده في السنوات الأخيرة يتعثر في اقتصادياته، وتواجه بلدانه أزمات مستفحلة تعصف بأنظمة وهيئات كاملة، تضع الاتحاد كقوة وتكتل عالمي هام أمام تحديات الأزمة المالية العالمية التي عرفها العقد، والتي كانت الولايات المتحدة مصدرها الفعلي، فاهتزت العملات الرئيسة وتبلبلت اقتصاديات العالم دون حدود مرسومة، فعولمة الرأسمالية أطاحت بالحدود المغلقة ومنحت الثورة المعرفية أفقا واسعا للشركات الاستثمارية العابرة للقارات وحدودا شاسعة من التدخل والتأثير في طبيعة الأنظمة السياسية الواهنة، وتحديدا أنظمة رخوة ومتهالكة في الدول النامية، فاتسعت حجم الأرقام الإنسانية في الفقر والبطالة وتراجع الإنفاق على التنمية البشرية والبنية التحتية، واستشرت الجريمة وعادت إلى الحياة الإنسانية أمراض كدنا نقبرها في الذاكرة الإنسانية كالكوليرا والطاعون والملاريا، غير اننا نجدها تصبح إضافة جديدة إلى أمراض وفيروسات وظواهر كونية تكاد تكون غريبة بحاجة إلى ميزانيات هائلة لمكافحتها، ناهيك عن أعداد البشر المتدفقين إلى بلدان مجاورة بسب الكوارث الطبيعية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

لهذا تجوع أفريقيا ويموت فيها الإنسان مما يضطره للهجرة غير المشروعة نحو قارة غنية مجاورة دون أن يهتم بويلات ونتائج الموت المحدقة له في وسط البحر بقوارب خشبية تغرق في منتصف الطريق، فلا نسمع من الناجين إلا عبارات مؤثرة، بأنهم اختاروا المجازفة لكونهم يعيشون بين نمطين من العيش وكلاهما يقود إلى الموت والبؤس، لهذا يصبح خيار المجازفة فرصة جديدة للنجاة من أوضاعهم البائسة في بلدانهم.
 
لم تستطع البلدان حماية حدودها، كدول صغيرة للغاية كقبرص ومالطا وإسرائيل من تدفق العمالة المهاجرة غير الشرعية، حتى دول كبيرة كالولايات المتحدة والبرازيل والصين، حيث سكان الدول الأفقر مضطرون للبحث عن فرص عمل في الدول الأغنى، وتتحول إلى قوة جذب مستمرة وصراع بين عمالة داخلية تشهد بطالة مستمرة وعمالة خارجية متدفقة تهز أوضاع تلك الأنظمة سياسيا وامنيا بمشاكل مستفحلة، فتنمو بالنتيجة حالة الاكسينوفوبيا بين السكان الأصلين والقادمين الجدد، الشرعيون منهم وغير الشرعيين.

إن عولمة الحقوق والعبور وفتح الأسواق والأبواب على مصراعيها، تسبب بهذا القدر أو ذاك أزمات مستمرة قد تتحول إلى أزمات دائمة تدور في محيطها المستمر، فتنتج صدامات داخلية وأعمال عنف عرقية وطائفية، وتضع تلك الأنظمة والبلدان على حافة الحرب الأهلية. وفي الوقت الذي تزداد فيه الأزمات الاقتصادية والسكانية والبيئية، نجد في الضفة الأخرى من مسيرة الإنسانية تقدما هائلا وسريعا في الثورة المعرفية بكل مجالاتها واختراعاتها تطل علينا كل عام في مشاريع جائزة نوبل لنكتشف إننا فعلا بخير، وفي ذات الوقت ندخل حالة التشاؤم عندما نجد لوحة متناقضة بين صورة الهياكل العظمية للفقراء والجياع والمشردين في عالمنا جنبا إلى جنب مع مشاهد صور البذخ والرفاهية والتسلح والإنفاق العسكري الهائل والهدر المتواصل في الثروة الإنسانية، حيث الوعي المجتمعي لم يلتفت بصورة حقيقية لما ينتظره من أزمة مياه وغذاء كإخطبوط قادم، فالأمن الغذائي والمائي مهمان للغاية إذ سيعرض بلدان وشعوب كثيرة إلى حدود الكارثة، أكثر من كوارث الطبيعة نفسها المعرضة للتدمير المفاجئ في ظواهره البيئية.

في مثل هذا العقد هناك تدفق واسع نحو الحريات والحقوق المدنية واتساع رقعة الديمقراطيات وانهيار بقايا الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، ودخول الإنسانية أزمات صعبة ستمس أهم مفاصل مجتمع الرفاه في دول عريقة بالتطور والتقدم الاجتماعي، وما تشهده أوروبا تحديدا من انفجارات بدأت في اليونان وتمر ببريطانيا وتتمدد نحو ايرلندا والبرتغال، ليست إلا تعبيرا أوليا عن صراع محتدم بين الأثرياء الذين يزدادون ثراء والفقراء الذين يزدادون فقرا، كميسم واضح لعصر العولمة، حيث بدأ العقد الأول منه في القرن المنصرم فيما العقد الثاني يدخل في عمق الألفية الثالثة ويهزها بقوة كشجرة عجوز تتقطع جذورها في الأرض. على هذا المستوى من القلق الإنساني والتفاؤل التاريخي، تكون البحرين جزءا من هذا التكوين العالمي المتناقض، جزءا من هذا الخليج المضطرب، الذي لا احد يعرف شهوره القادمة كيف ستكون؟ فلهيب أفغانستان وإيران نسمع أصواته المكتومة في بروكسل، فأوراق الناتو الجديدة تستعد لمرحلة عقد ثان في الألفية، سيكون الدرس الثاني بعد العراق في مناطق لا احد قادر على جس سيناريوهاتها بدقة فأصحاب قرار الحرب والسلم هم وحدهم من يقررون صنع الأزمات والسيطرة عليها متى ما يشاءون، فأين ستكون شعلة الحرب القادمة، الكوريتين أم الشرق الأوسط، لبنان أم إيران أم بؤرة أخرى نجهلها؟! حيث نتذكر قول بوش الابن بعد انهيار البرجين «إن الحرب على الإرهاب سيستغرق ما يقارب الخمسة عشر عاما»، ما يعني اننا بحاجة إلى ست سنوات قادمة من الحرب لاجتثاث جذور الإرهاب الدولي!! وهذا ما لا يمكن تأكيده وحسمه في «الكولكليتر» السياسي.

 الأيام  28 ديسمبر 2010