المنشور

من الوظيفة إلى القبر مباشرة


أبلغ تعبير، وأكثرها مدعاة للأسى، نسمعهُ تعليقاً على ما نسب للمسؤولين في الهيئة العامة للتقاعد الاجتماعي عن النية في رفع سن التقاعد للرجال من ستين عاماً الى خمسة وستين عاماً، إنهم قرروا بذلك إرسال المواطنين مباشرة من أعمالهم الى قبورهم، دون أن تترك لهم فرصة الاستمتاع ببعض سنوات الراحة، او توظيف ما لديهم من خبرات اكتسبوها من خلال خدمتهم، في مجالات حياتية أخرى بعد التقاعد.

وليس في هذا القول مبالغة كبيرة إذا ما نظرنا الى حقيقة أن الموت يحصد حياة الكثيرين وهم دون السبعين من أعمارهم، وهذا ما تدل عليه المؤشرات الرقمية عن متوسط الأعمار في البحرين، والتي بالكاد لا تتجاوز السبعين إلا قليلا، وفق أحدث إحصائية تعود الى سنوات خلت، ولا نظن أن الأمر تحسن اليوم، بل المرجح أن الأمر على حاله.

غريبٌ أمرنا في هذا البلد، فما أن نفكر في حل مشكلة من المشاكل أو التغلب على عجزٍ مالي هنا أو هناك، فان أول ما يخطر في أذهان القائمين على حل الأمور هو التوجه نحو مكتسبات الناس.

والأمثلة في الآونة الأخيرة في ازدياد، فبعد الحديث عن رفع الدعم الحكومي عن المحروقات وسلع حيوية أخرى، تحت عنوان إعادة توجيه الدعم، جاء الحديث عن معالجة ما يدعى بالعجز الاكتواري في التأمينات عبر رفع سن التقاعد، كأن الموظف البسيط هو المسؤول عن هذا العجز، لا سوء تخطيط وإدارة خلال سنوات طوال، من خلال شطب الديون المستحقة للهيئة، أو سوء التصرف الاستثماري في أموال المتقاعدين، وهي لم تعد اموالاً للدولة، وإنما هي حقوق مكتسبة للموظفين اقتطعت من رواتبهم خلال سنوات وظيفتهم، وعلى حساب مصالحهم وسعادة عائلاتهم، لتوفيرها لهم بعد التقاعد.

لا يجوز الاستخفاف بمصالح الناس وحقوقهم واحتياجاتهم الفعلية كلما عنّ لراسمي السياسات الاقتصادية التغلب على مشكلة هنا أو هناك، وهي مشاكل لا دخل للمواطنين في صنعها، وبالتالي لا يليق أن يتحملوا هم بالذات ضريبة حلها، عبر إضافة أعباء أخرى على عاتقهم غير الأعباء الكثيرة التي نعرف.

هدف أي تنمية جادة وحقيقية هو النهوض بأوضاع المواطنين المعيشية وتوفير سبل الحياة الحرة الكريمة لهم، وتطوير الخدمات الاجتماعية المقدمة لهم من جانب الدولة، في إطار مسؤولياتها في حفظ حقوق الناس ورعايتها، وهذا هو المعيار الذي من خلاله يمكن تقييم مدى جدية وصُدقية أي مشاريع موجهة نحو تطوير التنمية.

لذلك لا يمكن المرور مرور الكرام أمام الإعلانات التي تنسب لجهات أو مسؤولين حول توجهات محتملة تمس بالحقوق المكتسبة، وهناك أولوية قد لا تضاهيها أية أولوية أخرى أمام مجلس النواب والنقابات العمالية والجمعيات السياسية والصحافة ومؤسسات المجتمع المدني في أن تعطي هذه القضايا ما هو عائد لها من أهمية.
ومسؤولية الدولة أن تصغي لشكاوى الناس ومطالبهم، وأن تقيم التوازن الضروري في المجتمع الذي يشكل الالتزام بشروط الحياة الكريمة لمواطنيها حجر الزاوية فيه.

ان قطاعاً كبيراً من الذين ينتظرون تقاعدهم الوشيك يطالبون بما يبدد قلقهم تجاه ما قيل عن توجهات تمس مصالحهم في الصميم.