بعد أيام قليلة يدق رقاص الساعة ويخفق قلب الكون في وداع السنة التي امتلأت بحكايات الفرح والحزن. استعيد اليوم ذاكرتي لسنوات خلت عندما كنا نمر قرب بيوت الانكليز. كنا مراهقين ننتمي لأحد الأحياء الفقيرة البائسة، وكانت مدرستنا في الضفة الأخرى من الحي، حيث بدأت تنهض بيوت اسمنتية جديدة وبيضاء. عرفنا أنها بيوت الانكليز الذين يعملون في شركة النفط. كنا نرى زينة البيوت من كوة النوافذ وعلى واجهة الأبواب علقت زينة زاهية كانت مثار تساؤلاتنا الساذجة. وقيل لنا حينما كان الفضول خبزنا اليومي إن الانكليز يحتفلون «بعيدهم» فعرفت ان للشعوب أيضا أعيادا غير أعيادنا وان العالم أوسع من حدقات عيوننا، يومها لم أكن أفقه ماذا يعني عيد الميلاد ولا حتى رأس السنة الميلادية؟ كل ذلك تعلمته في السبعينات، متأخرا للغاية في اكتشاف الأشياء، وكان ذلك في فضاء احتفال خارجي، وخارج حدود الوطن.
توالت عجلة الزمن، كبرنا وكبرت معنا معاني الحياة، وخبرة جديدة دخلت قاموس حياتنا. فلم نعد ننتمي لأحياء الفقراء البائسة وإنما أصبحت الزينة في بيوتنا نحن بطرق مختلفة، ما عاد الانكليز وحدهم هم الذين يحتفلون، اكتشفنا أنها عادة دينية تخص العالم المسيحي، بينما رأس السنة بجذورها الدينية أصبحت شبه «عادة عالمية» وعرفا إنسانيا جديدا. وطالما ان الناس يتمنون في الساعات الأخيرة من رأس السنة كنا نحن نمارس نفس التقليد في الثمانينات وفي بيوت الأحياء الفقيرة ولكن في حفلة ذكورية خالية من نضارة الفرح الحقيقي. ومع ذلك كنا سعداء مثل بقية خلق الله.
وكان “جاس” متميزا كعادته بالأمنيات. سألناه أول مرة نحتفل بهذا الطقس الكرنفالي، ما هي أمنيتك يا جاس في السنة الجديدة؟ فقال” أن تتحرر فلسطين!!” لم يتأخر في الإجابة أبدا ولم يقلها بنبرة الدعابة غير إننا ضحكنا من الأعماق، ضحكنا من أمنيات “جاس” التي وجدناها موضوعا غريبا مع ان لكل إنسان الحق في أن يتمنى بطريقته، أمنيات صغيرة، وأمنيات مستحيلة وأمنيات ممكنة، كلها أحلام في لحظة ما من زمن نودعه وزمن نستقبل مجهوله.
تكررت احتفالاتنا السنوية وجاس يكرر كل عام أمنيته ونحن نسخر منه لأننا نعرفه وكان أكثرنا جبناً في المدرسة فهو يعود للبيت هربا كلما خرجنا في تظاهرة سياسية هاتفين «يا جمال اشتد اشتد فلسطين من بعد السد!» وجاس لم يعر المسألة اهتماماً وكان يسألنا ماذا فعلتم في المظاهرات؟! ترى لماذا كان جاس يعوض خوفه وتعبيراته في قبو الحلم الكبير ليلة رأس السنة؟! بخيلاً كان وجبانا ظل على الدوام غير ان حساسيته الداخلية قادته إلى مستشفى الأمراض العصبية. وهو مازال يحلم بأمنية لم تتحقق بعد فأطفال الحجارة ربما يعودون للشوارع مرة أخرى في أي سنة، من اجل تحرير الأرض والمستوطنات اليهودية. فهل ننتظر حكايات أخرى للسنوات القادمة أم نعيش مع حكايات ذاكرة الأمس أم نحتفي بالسنة الجديدة بضحك وفرح لم يكتمل.
تركنا خلفنا الأمنيات السياسية لكونها أمنيات مراهقة فكرية، وتركنا خلفنا الأحلام الكبرى لكونها أضغاث أحلام لن تحدث، وتركنا كل الاحباطات الممكنة إذ اكتشفنا ان الحياة هي أوسع واعقد من مجرد أمنيات تلك الليلة.
من الأحسن أن لا تتمنى أكثر من حدود واقعك الممكن، أن تحصل على زيادة سنوية وان يذاع اسمك في مشاريع الإسكان المعطل، وان يتخرج أولادك هذا العام من الجامعة ويحصلون على عمل، أن تشتري سيارة يابانية تقضي لك حوائجك في عصر استهلاكي، أن تحصل على لاب توب في يانصيب مؤسسات كاذبة، أن تخرج أمك من المستشفى بسرعة وان تحج العمرة بعد سنوات كونك تقترب من الحفرة الأخيرة!! تشدك السخرية وعبثية الحياة لكل أنواع الأمنيات إلا أمنية واحدة تكرهها هو أن تجد نفسك تزحف نحو الشيخوخة بهدوء وخوف صامت. وينمو هذا الشعور كلما اكتشفت ان الحياة جميلة وتستحق أن تعاش ليس مرة واحدة وإنما مرات ومرات.
لهذا أقول لكم أصدقائي كل عام وانتم بخير دون فواتير بنكية مزعجة!
الأيام 26 ديسمبر 2010