منذ البدايات للتاريخين العربي القديم والمعاصر تم القفز على مرحلةِ رأس المال الصناعي، فمنذ رساميل البضاعة المطولة في التاريخ لم يحصل رأسُ المال الصناعي على توسعه وانتشاره في أي واقع عربي.
حتى في التاريخ العربي القديم قامتْ الحرفُ بتشكيلِ اللوحةِ الاقتصادية ثم ظهرتْ التجارةُ وبعد ذلك ظهر التجارُ الأحرار لفترة تاريخية وامضة(العهد الإسلامي الأول) ثم حركوا تداولَ البضائع على نحو واسع، وكذلك الملكيات الصغيرة، لكن منذ ظهور الإقطاع العام بتحويلِ ملكياتِ الفتوح إلى ملكيةٍ عامة بدأ تشكل الإقطاع العام، ثم جاء الإقطاعُ الخاص مع الأسر الحاكمة وجعل الواقع تحت امرته.
في العصر الحديث ظهرتْ صناعةٌ شخصيةٌ خاصة في بدايات القرن العشرين مع التوسع الغربي.
قوانين التطور الاقتصادي العربي تتجسد في نمو التجارة بمختلف أنماطها الواسعة ثم ينمو رأس مال صناعي كبير أو صغير حسب مستويات الدول، ثم تأتي الدولُ وتصادرُ هذا الدور قبل أن ينتشر رأس المال الصناعي الخاص المغير للبنية الاجتماعية المتخلفة.
التركيبة الحديثة هي: بضاعةٌ، فرأسمالٌ صناعي، فرأسمال مالي.
لا تُتاح علاقات نضج لرأس المال الصناعي وانتشاره وتشكيل علاقات مع العلوم، والجامعات، والحياة الاجتماعية.
في المراحل الملكية السابقة في الدول العربية كما في مصر والعراق، يظهر رأس مال خاص ويترابط مع رأس المال الغربي مقدماً له المواد الخام الزراعية، فتأتي العهودُ الجمهوريةُ فتستعجل نمو هذه الرساميل، وتريدُ قفزات كما تقول، ولكن رأس المال يُصادر لصالحِ تطورٍ مشوه يتدهور بعد ذلك على مختلف الأصعدة، على صعيد الحريات، وعلى صعيد نمو الوعي الاجتماعي الحر، وتغيير البنية الاجتماعية لصالح علاقات التقدم.
وليس غريباً أن يصادر الحكمُ العباسي الإقطاعي أملاكَ التجار وتطورَ الفلسفة معاً، وهو أمرٌ مشابه لما حدث في عهد الجمهوريات – الملكيات، أو عهد إجهاض تطور رأس المال الصناعي بدعوى توسيعه.
ما يحدث انه فجأة ينكمشُ رأسُ المالِ الصناعي في الدول العربية ليقفز رأس المال المالي: البنوك والشركات المالية، هذه القفزة نحو رأس المال المالي، تحدث بشكل كبير من خلال أجهزة الدول، أو من خلال التأميمات أو من خلال التملك بدعاوى تطوير الصناعة.
هنا يحدث التسييس للصناعة، حسب خطط الدول ومصالحها وتخضع الموادُ الخامُ لهيمنة الدول، وقراءة الأجهزة والوزارات وأهدافها غير المدروسة والمحبذة شعبياً، وتصمم الخطط للتجارة بالمواد الأولية وتصنيعها حسب هذه الإدارات السياسية وليس حسب موضوعية الأسواق.
المواد الخام الثمينة وليست المواد الخام الرخيصة، وهو أمرٌ يصيب المواد كلها بإشكاليةٍ مزودجة، فمن جهةٍ تُعرَّض المواد الثمينة للنضوب، وللعلاقات الخاصة مع الدول المصدرة ذات الطبيعة السياسية، ومن جهة تجمد المواد الرخيصة أو لا تطور او لا تكتشف.
ومهما كانت الوعود من تملكِ الصناعة كالقيام بثورة نهضوية، وتغيير حال البلد المتخلف إلى مستويات كبرى، فذلك لا يحدث وتظل البلدانُ المتخلفةُ مختلفةً عبر هذه التملكات الحكومية العربية.
السبب يعود لنمطية التطور: بضاعة، فصناعة محدودة، ثم رأس مال مالي مهيمن.
فحين تخضع الصناعة للبيروقراطيات الحكومية العربية تتدخلُ الأهدافُ السياسيةُ بشكلٍ فوقي على الصناعات، وتغدو الوفرة المالية هي المقصودة، وهي وفرةٌ تتحققُ عند تلك البيروقراطيات الحكومية، التي تحولها إلى بنوك وسندات وشركات مالية، وكل شيء إلا الصناعة.
في كلِ حقبةٍ تخضعُ البضاعة الصناعية لأهداف سياسية، تركزُ في استخلاصِ الفائض المالي بسرعة ووفرةِ من أجل شراء أسلحة أو بناء مشروعات تنموية مهمة كما في الحقبة الوطنية وهيمنة فوقية أو تتحول إلى سيولة هاربة إلى أشكال رأس المال المتعددة بنسب كبيرة خاصة العقار، والتوظيفات المالية.
القفزة فوق رأس المال الصناعي تعني قفزات فوق التحليلات الموضوعية والخطط الوطنية المتكاملة، فوق الديمقراطية الصانعة للقرارات التحويلية الاقتصادية المتكاملة، فوق الثقافة كأداة للوعي والدرس وإنتاج العلوم، فوق الظروف المتخلفة للجمهور وأوضاعه الاقتصادية ومستويات معيشته.
وأخيراً تغدو الصناعة مجرد كيس نقود خارجي، فالمواد من الخارج والعمالة من الخارج، والأموال تذهب للخارج!
النتيجة هي بقاء أشكال التسريب المالية وبقاء البنى المتخلفة.
صحيفة اخبار الخليج
14 ديسمبر 2010