ليس ثمة ديمقراطية كاملة، الديمقراطية شكلٌ سياسي معبرٌ عن علاقاتٍ اجتماعية تاريخية مؤقتة. وكلما تطورتْ هذه العلاقات الاجتماعية تطورتْ معها الأشكال السياسية الديمقراطية.
إذا لم تتطور هذه العلاقات يحدث القمع، أو الانقلابات أو الثورات.
ولهذا فإن الأشكالَ الديمقراطيةَ الغربية ليست مطلقةً هي أشكالٌ تاريخية معبرةٌ عن مصالح القوى العليا والأحزاب المسيطرة، ولكنها ذات قواعد شعبية كبيرة، تتفق معها في كيفية إدارتها للعلاقات الاقتصادية وتنمية الأجور والرساميل خاصة أما مسائل أخرى كثيرة فهي لا تتفق مع هذه الحكومات، فإذا حدث تناقض تغيرت الحكومات مرة نحو اليمين ومرة نحو اليسار.
كما تمثل الديمقراطية الغربية هيمنةً على القوى العاملة في بلدانها كذلك تمثل هيمنةً عامة على خطوط التطور السياسية في البلدان النامية.
ولهذا فإن عمليات الكشف عن مؤامرات وسياسيات الحكومات الغربية الداخلية غير المنشورة، تغدو محرجة.
أي أن الدخول إلى مطبخ هذه الحكومات التي لم يبق لديها الكثير من الحركة السياسية الخصوصية يخنقها، فالشعوب الغربية تقتحم حتى صميم الإدارة عبر عمليات مغامرة شخصية وجماعية.
إن مستوى الحرية كبير وكشف كل شيء مسموح في الداخل، لكن في العلاقات الدولية، وتعرية العلاقات السياسية السرية، وبعضها تكتيكات لاتزال في المطبخ السياسي يؤثر في هذه الأعمال وربما يفسدها.
لكن لدى الحكومات الغربية تصرفات قمع قاسية كذلك، وهي تقف لحماية بعضها بعضاً بصور سريعة بارعة، وتتجمع معاً خلال أيام، وتبحث عن أسباب أخرى غير منع حرية الإعلام لتكمم أفواه هذا الإعلام.
وجود مسربين من داخل الأجهزة الحاكمة وبهذا المستوى يعبر عن تذمر أقسام من الشعب الأمريكي بهذا الدور السيادي الكبير في العالم الذي يكلف هذا الشعب الكثير من الأموال، وتتفاقم هذه العملية مبرزة أزمة في الأعماق، والأمر لا يعود لمؤسس الموقع جوليان أسانج بل للتذمر المتصاعد من قبل الشعب الأمريكي لهذا الدور العالمي المكلف للولايات المتحدة في حين أن حلفاءها الأقربين يقلصون أدوارهم العالمية التدخلية في أمور الشعوب.
فالموقع ليس هو الذي انتزع واشترى هذه الوثائق بل جاءته من قبل العسكريين والمدنيين الأمريكيين أنفسهم ومن دون رشا أو ضغوط.
ولهذا فإن إنتاج فضيحة جنسية للرجل هو فعل غريب ويتسم بالالتفاف والخداع. وخاصة أن اكتشاف الفضيحة جاء في موعد النشر، فيا له من توقيت غريب! ولماذا التدخلات في حياة الناس الشخصية؟!
وأغلب الوثائق المسربة والمنشورة ليس فيها الشيء الكبير والخطير من الأسرار، لكن الأمر الخطر هو أن الدولة الكبرى في العالم صارت مخترقة، وأن أسرارها وعلاقاتها مع الدول موجودة في الشارع، فضربَ الحدثُ كبرياء الدولةَ ومصداقية قنواتها الدبلوماسية وحقائب أسرارها المصونة.
مثل بقية الإعلام المعاصر تتركز الوثائق في الأحداث الملتهبة والفضائح والمسكوت عنه أو المخفي من أسرار الدول وتلاعباتها وصراعاتها، لكن لا تشير إلى قضايا التنمية ونجاح المشروعات، فقد غدا الإعلام فضائحياً صراعياً يفاقم التوتر بين الدول.
كما تكشف نفاق الدول الغربية في الدفاع عن الحريات، وظهور دول أخرى ديمقراطية في العالم أكثر نظافة وشفافية تؤيد النشر وتنتقد الإجراءات القمعية ضد الموقع وضد مؤسسه، كما ظهرت مسائل جديدة في الإعلام تؤكد أهمية الحرية الإعلامية وتوجه الصحفيين لكشف المخفي، بدلاً من سيادة صورة الصحفي الناقل المسجل الآلة المتماشية مع السائد.
وأين العالم العربي من ذلك؟ وأين مبادراته التحررية الإعلامية وتحليلاته للواقع السائد وما يدور وراء الكواليس؟ وأين مشارطه لتحليل الحياة السياسية؟
صحيفة اخبار الخليج
13 ديسمبر 2010