احتفلت اليونسكو في شهر نوفمبر باليوم العالمي للفلسفة، حيث لاحتفال هذه السنة طعم المرارة والحزن على مستوى حقل الفلسفة ورجالاتها العرب، إذ غيّب الموت في هذا العام ثلاثة عمالقة عرب أضافوا للفلسفة الإسلامية والعربية مجالا خصبا للاشتغال بها دون خوف أو تردد، بل وواجهوا العقل العربي والإسلامي المتزمت دون توجس، رغم كل أشكال العسف والفتاوى والملاحقة والترهيب، إلا أنهم لم يستسلموا للفكر الظلامي، الذي حاول تقييدهم وسجنهم في بوتقة الخوف والتردد والنكوص، لقد كان الجابري «المغربي» وحامد أبو زيد «المصري» ومحمد أركون «الجزائري» سفر عربي طويل في الفلسفة وثرائها وغناها المستمر، فقد رفدوا لنا مكتبتنا العربية بزاخر نتاجهم وقوة وعمق بحوثهم وأسئلتهم الاستفزازية نحو الحياة والكون والفكر والمجتمع.
غادرونا ونحن نشعر بمدى فداحة الخسارة لمن تابعوا أعمال هؤلاء مثل غيرهم من العرب، الذين أعطوا الفلسفة العربية والإسلامية الجديد من الدراسات والبحوث، محاولين تخطي كل أشكال الجمود الفكري والقهر العقلي والروحي للإنسان.
فمن يا ترى فعلا ظل ومازال العدو اللدود والدائم للفلسفة ورجالاتها وأسئلتها التي تشبه أحيانا قوة الزلزال حينما تعترض أسئلة البداهة والمسلمات؟ فيبرز حسب وجهة نظرنا ثلاثة أعداء، ظلوا خصوما الداء للفلسفة لكونها تهز عروشهم وهيمنتهم وتحرك المياه الراكدة في بيئتهم ومحيطهم الساكن بالخنوع الفكري والفلسفي، فهناك خطوط رسمها هؤلاء الثلاثة كالتابو، أولهم المؤسسة الدينية المتمثلة في رجال الدين والكهنوت وثانيهم السلطة السياسية والمتمثلة أحيانا في نظام الحكم وسلطة المال، بشكل مختلف ومؤتلف أحيانا راح العدو الثالث المتمثل في رداء الجهل والجهالة، إذ اعترض العدو الثالث بسبب وعيه وعقله وقلة حيلته، تجسدت في معشر الجموع الواسعة من العامة على وجه الخصوص فيما ظل جزء من الخاصة يراوحون في رفض الفلسفة كمجال مثير ومربك للعقل، فقد لاحظ الجاحظ في مسألة سكون نفس الجاهل «أن صدر الجاهل قلما يضيق بجهله ليطلب إزالته بالعلم فهو يجهل أنه يجهل أصلا» وإذا ما كان هناك اعتراض بين سكون نفس الجاهل والعالم، وعلاقتها بمعيار اليقين، كمنت في محور أسئلة الإغريق القدماء في مقولة «اتاراكسيا الشكاك» فإنها بالضرورة لا تفسح مجالا لأسئلة العقل عند العدو الأول للفلسفة كسلطة تمنع وتحجر بعض الأسئلة بالمطلق، مما يجعل من مساحة وحدود العقل مقيدة، فكان مصير رجال العلم والفلسفة محاكمات تاريخية بشعة كالحرق والخازوق كما حدث للعالم الفلكي والرياضي الايطالي غاليليو ومن قبله دفع ثمنا باهظا كوبرنيك، وتوماس كامبانيللا «سجن» والأب جوردانو برونو «حرق حيا» فقد كانت الأسئلة وتجاربها تمس تعاليم الكتب المقدسة، التي منعت محاكم التفتيش، الاقتراب منها بأي نوع من الأسئلة التي تمس اليقين.
مثل هذه البيئة عرفتها الشعوب العربية والإسلامية منذ وقت طويل حتى يومنا هذا، كحالة الخلاف بين الجبرية والقدرية والتي لم تخل من أبعاد سياسية، فقد روى القاضي عبد الجبار عن شيخه أبي علي الجبائي من قوله «إن أول من قال بالجبر وأظهره معاوية، وأنه اظهر أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه، ليجعله عذرا فيما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه، وأن الله جعله إماما وولاه الأمر، وفشي ذلك في ملوك بني أمية» في سياق ذلك التاريخ والظروف الاقتصادية والسياسية بإمكاننا معرفة دواعي وفهم معاوية لترويج الجبرية، هذه العلاقة الثنائية في المصالح بين سلطة رجال الدين والسلطة السياسية، «ستمنح معاوية مسألة تركيز السلطة نهائيا وجعلها في أمراء الأمويين، ولعقائدية الجبر التي تبرر الاستبداد والظلم الاجتماعي» كصوت القدرية رغم إن هذه الفرقة لم تتخل عن نقد الطبقة الحاكمة عند انحرافها عن جادة الدين. نستحضر رواية عن عطاء بن جسار القاص ومعبد الجهني إنهما اقبلا على الحسن البصري ذات يوم وسألاه عن أولئك الأمراء، الذين يسفكون دماء المؤمنين ويتذرعون بأن ذلك من قضاء الله وقدره فأجابهم: إن أعداء الله يكذبون’’ وكان على أشخاص مثل البصري أن يتكلم في القدر ولكن الخشية أرجعته ملتحفا بالتقية، فكانت التقية بذاتها فلسفة الخوف واحتماء من جبروت الموت ونكران الحقيقة، كما فعل بطرس مع المسيح خوفا من بطش الجنود الرومان.
فهل نبيح لأنفسنا حق سؤال مشروع وكوني حول متى بدأ الإنسان سؤاله الفلسفي الأول وعن ماذا كان في البداية؟ يكلفنا ذلك السؤال إبحار عميق في مسيرة الإنسان الطويلة وعلاقته بكل العلوم بما فيها الفلسفة، ذلك الأب الروحي الدائم للإنسان وصراعه ضد الأعداء الثلاثة منذ النشوء والتطور!
صحيفة الايام
5 ديسمبر 2010
غادرونا ونحن نشعر بمدى فداحة الخسارة لمن تابعوا أعمال هؤلاء مثل غيرهم من العرب، الذين أعطوا الفلسفة العربية والإسلامية الجديد من الدراسات والبحوث، محاولين تخطي كل أشكال الجمود الفكري والقهر العقلي والروحي للإنسان.
فمن يا ترى فعلا ظل ومازال العدو اللدود والدائم للفلسفة ورجالاتها وأسئلتها التي تشبه أحيانا قوة الزلزال حينما تعترض أسئلة البداهة والمسلمات؟ فيبرز حسب وجهة نظرنا ثلاثة أعداء، ظلوا خصوما الداء للفلسفة لكونها تهز عروشهم وهيمنتهم وتحرك المياه الراكدة في بيئتهم ومحيطهم الساكن بالخنوع الفكري والفلسفي، فهناك خطوط رسمها هؤلاء الثلاثة كالتابو، أولهم المؤسسة الدينية المتمثلة في رجال الدين والكهنوت وثانيهم السلطة السياسية والمتمثلة أحيانا في نظام الحكم وسلطة المال، بشكل مختلف ومؤتلف أحيانا راح العدو الثالث المتمثل في رداء الجهل والجهالة، إذ اعترض العدو الثالث بسبب وعيه وعقله وقلة حيلته، تجسدت في معشر الجموع الواسعة من العامة على وجه الخصوص فيما ظل جزء من الخاصة يراوحون في رفض الفلسفة كمجال مثير ومربك للعقل، فقد لاحظ الجاحظ في مسألة سكون نفس الجاهل «أن صدر الجاهل قلما يضيق بجهله ليطلب إزالته بالعلم فهو يجهل أنه يجهل أصلا» وإذا ما كان هناك اعتراض بين سكون نفس الجاهل والعالم، وعلاقتها بمعيار اليقين، كمنت في محور أسئلة الإغريق القدماء في مقولة «اتاراكسيا الشكاك» فإنها بالضرورة لا تفسح مجالا لأسئلة العقل عند العدو الأول للفلسفة كسلطة تمنع وتحجر بعض الأسئلة بالمطلق، مما يجعل من مساحة وحدود العقل مقيدة، فكان مصير رجال العلم والفلسفة محاكمات تاريخية بشعة كالحرق والخازوق كما حدث للعالم الفلكي والرياضي الايطالي غاليليو ومن قبله دفع ثمنا باهظا كوبرنيك، وتوماس كامبانيللا «سجن» والأب جوردانو برونو «حرق حيا» فقد كانت الأسئلة وتجاربها تمس تعاليم الكتب المقدسة، التي منعت محاكم التفتيش، الاقتراب منها بأي نوع من الأسئلة التي تمس اليقين.
مثل هذه البيئة عرفتها الشعوب العربية والإسلامية منذ وقت طويل حتى يومنا هذا، كحالة الخلاف بين الجبرية والقدرية والتي لم تخل من أبعاد سياسية، فقد روى القاضي عبد الجبار عن شيخه أبي علي الجبائي من قوله «إن أول من قال بالجبر وأظهره معاوية، وأنه اظهر أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه، ليجعله عذرا فيما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه، وأن الله جعله إماما وولاه الأمر، وفشي ذلك في ملوك بني أمية» في سياق ذلك التاريخ والظروف الاقتصادية والسياسية بإمكاننا معرفة دواعي وفهم معاوية لترويج الجبرية، هذه العلاقة الثنائية في المصالح بين سلطة رجال الدين والسلطة السياسية، «ستمنح معاوية مسألة تركيز السلطة نهائيا وجعلها في أمراء الأمويين، ولعقائدية الجبر التي تبرر الاستبداد والظلم الاجتماعي» كصوت القدرية رغم إن هذه الفرقة لم تتخل عن نقد الطبقة الحاكمة عند انحرافها عن جادة الدين. نستحضر رواية عن عطاء بن جسار القاص ومعبد الجهني إنهما اقبلا على الحسن البصري ذات يوم وسألاه عن أولئك الأمراء، الذين يسفكون دماء المؤمنين ويتذرعون بأن ذلك من قضاء الله وقدره فأجابهم: إن أعداء الله يكذبون’’ وكان على أشخاص مثل البصري أن يتكلم في القدر ولكن الخشية أرجعته ملتحفا بالتقية، فكانت التقية بذاتها فلسفة الخوف واحتماء من جبروت الموت ونكران الحقيقة، كما فعل بطرس مع المسيح خوفا من بطش الجنود الرومان.
فهل نبيح لأنفسنا حق سؤال مشروع وكوني حول متى بدأ الإنسان سؤاله الفلسفي الأول وعن ماذا كان في البداية؟ يكلفنا ذلك السؤال إبحار عميق في مسيرة الإنسان الطويلة وعلاقته بكل العلوم بما فيها الفلسفة، ذلك الأب الروحي الدائم للإنسان وصراعه ضد الأعداء الثلاثة منذ النشوء والتطور!
صحيفة الايام
5 ديسمبر 2010