لم تُكتشفْ العلةُ الرئيسيةُ في مجرى التاريخ الألماني في القرن التاسع عشر، فيُقال إن ثمة بقايا إقطاعية هيمنتْ على ألمانيا وهي تتطورُ باتجاهِ رأسماليةٍ واسعة.
أكبرُ منظرٍ لهذا التاريخ كارل ماركس، وهو مؤسسُ ما يُعرف بالماركسية التي طرحتْ البرنامجَ الاشتراكيَّ الفوري للتغلبِ على التناقضات في سيرورةِ المجتمعات الاستغلالية، والحلُ الفوري رافقَ تجربة الشباب الفكرية السياسية عنده، واستمر حتى مرحلة النضج بأشكالٍ متواريةٍ ثم أدركَ فشلَ الحل الفوري هذا من دون أن يعالجه نقديا بشكلٍ موسع فتركَ ثغرةً كبيرةً في فكره استغلها لينين فيما بعد بإنشاءِ دكتاتوريتهِ النهضوية الرأسمالية الحكومية الشاملة.
لكن نحن الآن في قراءةِ تلك العلة المركزية لأزمةِ ألمانيا لا أزمة روسيا، ومن خلال علاقة الأزمة الألمانية بالأزمة العربية، يقولُ باحثٌ مصري:
“تنتشر أفكار ماركس حول ألمانيا عبر جميع مؤلفاته ابتداء من مخطوطات فترة الشباب مثل “مساهمة في نقد فلسفة الحق لهيجل” ومروراً بـ “بؤس الفلسفة” و”الأيديولوجيا الألمانية” حتى “رأس المال”. وفي كل هذه المؤلفات يتناول ماركس ألمانيا باعتبارها مجتمعاً لم يلحق بعد بالتقدم الرأسمالي المتحقق في إنجلترا وفرنسا، وأنها سوف تواجه حتماً التناقضات التي يواجهها المجتمع الإنجليزي والفرنسي. وتتضمن تحليلات ماركس توقعاً بأن الثورة التي ستحدث في ألمانيا سوف تكون ثورة اشتراكية لا برجوازية”، أشرف منصور، نظرية الارتكاس الثقافي، الحوار المتمدن.
هنا نجدُ أن ماركس نفسه لم يُطبقْ فكرةَ التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية التي ابتكرُها هو نفسه، فنحن لا نعرفُ بالضبط هل ألمانيا مجتمعٌ إقطاعي أم رأسمالي؟ هل حدثتْ عمليةُ القطعِ البنيويةِ لتغدوَ ألمانيا رأسماليةً وتعبرُ التشكيلةَ الإقطاعية؟
“والمشكلة التي تواجه ألمانيا مزدوجة، فهي لا تعاني من تطور الإنتاج الرأسمالي وحسب، بل من تأخر هذا التطور في نفس الوقت، أي من بقايا الإقطاع والأعباء الأرستقراطية الموروثة، وسلسلة طويلة من الأمراض الوراثيه “الناشئة عن التفسخ المتصل لأساليب الإنتاج المتخلفة”. والحقيقة أن الثورة الاشتراكية هي حل ماركس لتناقضات أسلوب الإنتاج الرأسمالي في المناطق المتقدمة والمناطق المتخلفة على السواء، أي في المركز والأطراف معاً”، المصدر السابق.
ضاعتْ عمليةُ التحديدِ البنيوية هنا بمفردات مثل “تعاني من بقايا الإقطاع والأعباء الارستقراطية الموروثة”، لكن سلطة بسمارك لم تكن من بقايا الإقطاع، لقد كانتْ سلطةً إقطاعيةً عسكريةً سياسية مهيمنة جبارة، وفي ذات الوقت تقوم بتحويل ألمانيا للرأسمالية، عبر تملك الإقطاعيين للإنتاج الحديث ورسملة الريف.
إن عمليةَ التغيير من الإقطاعِ لسيطرةِ الرأسماليةِ الكلية لم تحدثْ إلا عبر عقود طويلة، خاصة بعد الهزيمة الكلية للهتلرية، ففي الوقت الذي ترسملتْ الحياةُ الاقتصاديةُ بقيتْ الأشكالُ الإقطاعية الايديولوجية والسياسية في البناء الفوقي قوية؛ إنه تناقضٌ بنيوي حادٌ أدى إلى كوارث.
إن التشكيلةَ الإقطاعيةَ لا تنهارُ كليةً، والتشكيلةُ الرأسماليةُ لا تظهرُ دفعة واحدة، وإذا كانت قد استغرقتْ في البلدِ المؤسسِ للرأسمالية وهو إنجلترا عدةَ قرون، فإن التسارعَ في الدولِ الأخرى المقاربةِ للإنتاجِ الرأسمالي الحديث كان مصيريا لها، ذلك بفعلِ الصراعات والتأثيراتِ المشتركةِ وكون هذه البلدان في منظومةٍ مسيحية تاريخية واحدة مشتركة منذ عهد “الإصلاح”.
ومن هنا فإن انهيارَ الإقطاعِ بثقافتهِ وأسسهِ السياسية احتاجَ إلى عقودٍ فيما كانت القاعدةُ الإنتاجيةُ تنمو بسرعةٍ أكبر، وهذه العمليةُ المركبةُ احتاجتْ إلى فوائضٍ ماليةٍ كبيرة لم تكن متأتيةً بوفرةٍ لدى ألمانيا المفككة ثم الموحدة وغير الحاصلة على مستعمرات، فكان لجوؤها للحروبِ من أجلِ إعادةِ تقسيمِ المستعمرات وتسريع التطور الرأسمالي الداخلي لتكونَ في مستوى إنجلترا وفرنسا المتقدمتين عنها بمراحل.
كانت الحربُ العالميةُ الأولى وألمانيا أقربُ بقوةٍ للإقطاع لكن هذه الحرب نفسها زادتها تأزماً وتقطيعاً واحتلالاً في جسدِها الجغرافي الوطني نفسه، فكانت القفزةُ في الصناعةِ وفي الانضباط العسكري العمالي والتطور في العلوم التقنية ردة فعل كبرى.
كانت الهتلريةُ تتويجاً لهذه التناقضات الرهيبة. فالرأسماليةُ الألمانيةُ تزدادُ تطوراً وبها رغبةٌ عارمةٌ دراكولية في ابتلاع المستعمرات وهي تضعُ المعاطفَ الفكريةَ المحافظة على جسمها، فكانت الشهيةُ للأسواق وعسكرة البرجوازية الحاكمة المتحولة من إرثٍ إقطاعي متجذر بها، تقذفُ بها بعيداً عن الديمقراطية والأنسنة الفكرية، فكان الصليبُ المعقوفُ بديلاً عن الرحمة.
وهنا نستطيع أن نضعَ المدارسَ الفلسفية الألمانية في مناخها التطوري الاجتماعي الواضح، كنتاجاتٍ متأثرةٍ بهاتين القدمين الموزعتين بين الإقطاع والرأسمالية، بين الفكر الديني المحافظ، والحداثة المهشمة، بين القوميةِ الدموية وضحالة التنوير الديمقراطي العلماني الألماني.
فليست فلسفةُ شوبنهاور التشاؤمية وأفكارُ نيتشه الفاشية وذروةُ الانهيار العقلي في تصوراتِ العنصرية الآرية الهتلرية، إلا حلقات التأزم الفكري والتوغل في الرجعية الفكرية والتصادم مع تيارات الأنسنة، أي التخلي عن أفكار البرجوازية الديمقراطية العلمانية وهي أفكارٌ لم تستطعْ ألمانيا إنتاجَها في ظلِ هذا التطورِ المتسارعِ والمزاحمة مع الرأسماليتين الكبيرتين البريطانية والفرنسية اللتين احتلتا أغلبَ العالم ثم تبعتهما الرأسماليةُ الأمريكيةُ فيما الإقطاع الروسي مهيمنٌ على ثلثِ الكرة الأرضية وهو ما أدى إلى تشكيل تجربة رأسمالية مغايرة شرقية استندتْ إلى تناقضاتِ ماركس الشاب وإلى عدمِ تحديدهِ الصارمِ في كهولته لخطِ التطورِ الراهن وقتذاك للبشرية الغربية.
صحيفة الايام
22 نوفمبر 2010