المنشور

النظر إلى دماغنا مُفَككاً

لاحظ العالم الألماني ف.ج جال الذي عاش بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر انه عندما كان صبياً صغيراً لم يستطع الحصول على الدرجات العالية التي كان يجمعها بعض أقرانه، لمجرد انهم يتمتعون بذاكرة اقوى بكثير من ذاكرته، فقد كان يجد صعوبة بالغة في حفظ المعلومات عن ظهر قلب، مع اعتقاده الراسخ انه فيما عدا ذلك، اكثر ذكاء منهم بكثير.
شغلت هذه الظاهرة تفكيره، وحاول جاهدا الوصول الى تفسير لها: لماذا كان بعض الناس اقدر على الحفظ والتفكير من غيرهم؟ وتساءل فيما بينه وبين نفسه عما إذا كان لهذا أساس بيولوجي، ثم انتقل الى مدرسة اخرى وواجهته الصعوبة نفسها.
غير انه لاحظ ان التلاميذ المتفوقين عليه في الحفظ وقوة الذاكرة لهم سمات جسدية معينة من أهمها اتساع العينين وبروزهما، واستخلص من ذلك نتيجة آمن بها إيمانا جازما، وهي ان الصفات الذهنية والعقلية لها جميعا أساس بيولوجي ثابت، قبل ان يتوصل الى انها تتعلق بتكوين المخ وحجم تجويفاته المختلفة.
وان شخصية الانسان كلها يمكن تحليلها الى هذه الصفات، فالميول الذهنية والعقلية المختلفة يمكن ردها على هذا النحو الى شكل المخ ومكوناته، وقضى بقية حياته في الملاحظة وجمع المعلومات لإثبات صحة نظريته.
هذا الاعتقاد دفع «جال» للقول ان مفهوم الذكاء الذي نستخدمه بكثرة في وصف الاشخاص هو مفهوم على قدر من الغموض والتعميم يجعلانه أحيانا من دون معنى، وان الأفضل برأيه التمييز بين أنواع مختلفة من القدرات العقلية والميول النفسية بحيث يحدد ما يمتلكه كل منا من نسب مختلفة من هذه القدرات.
وقد ميّز الرجل بين عدد كبير من هذه القدرات يصل عددها الى نحو ثلاثين، يعتقد أن لها مكاناً محدداً في المخ، مفنداً بذلك الاعتقاد السائد هو ان المخ يعمل كوحدة متكاملة في اداء الوظائف المختلفة، ولا ينفرد كل جزء منه بوظيفة بعينها.
الدكتور جلال امين الذي استعرض هذه النظرية في مؤلفه «كتب لها تاريخ»، لم يخف ميله الى رأي «جال» حتى وإن لم يكن مكتملاً، كأنه يحثنا على النظر الى دماغنا مفككاً الى أجزاء والكف عن اعتباره سطحاً مستوياً او كتلة واحدة تؤدي الوظائف كلها معاً، فيما الأرجح ان كل جزء منه ينفرد بمهمة او وظيفة بعينها.
 
صحيفة الايام
20 نوفمبر 2010