تجتاحُ الجزيرة العربية وخاصة قلبها النجدي الصخري عاصفة التيارات والتحولات ، فأطرافُ الجزيرةِ لعقودٍ سبقتْ واجهت مثل هذه العواصف، وهدأتها وامتصتْ بعضاً منها.
وجرى ذلك خاصة في المدن الصغيرة – البلدان، لكنها بعد لم تهضمها كليةً، بل ان رياحَ الهضابِ تهب قويةً مدمدمة.
وقد تحولتْ قوى الداخل خلال القرنين الأخيرين ولعبت الهجرات البدوية إلى المدن دورها في الاستقبال العربي الداخلي لمؤثرات الحداثة والاصطدام بها معاً.
لكن عواصف التغيير غدتْ عالميةً ولم يعد من الممكن السكون.
لقد أقيمتْ الأفكارُ الدينيةُ على علاقةِ الإلهِ الملموس المتحول مع الكون الطيع الذي هو مادةٌ هشةٌ متحولةٌ بيد الإله المتدخل في كل شيء والمسيطر على الزمان والمكان.
هذه هي الصورةُ الكليةُ المبثوثة في النصوص الدينية، وثمة صور أخرى رمزت للإله المنشئ للحرية.
هاتان الصورتان الكبريان تبثان من خلال مواد أرضية محضة؛ كألفاظ الأشياء والمظاهر الطبيعية المختلفة.
وخلالهما يدورُ الفعلُ الإنساني بين أن يصنعَ الحياةَ السياسية والاجتماعية وبين أن تصنعهُ السماء. بين أن يكون من إنتاج البشر وأن يكون من فعل النصوص القائدة.
وتعبر صورُ الدين عن تكوين وتقدم الحياة السياسية الاجتماعية، والطبيعة المطلوبة من الحكام، بأن يكونوا ديمقراطيين وليسوا استبداديين.
وكان الإسلامُ التأسيسي في عملية النضال التحولي يطرح هذه الأبعاد، ويوجه نحو إنتاجِ العلاقةِ الديمقراطية بين الإله والبشر، وبين الحاكم والناس فأشاعَ صوراً إنسانية للحاكم والعلاقة مع المحكومين. وكان لابد كذلك من سيادة مركزية وحاكم واحد مسيطر ومراعاة “الشعب” في أحواله وتطوراته.
وفي نمو الأمةِ العربية داخلَ الأممِ الإسلامية قائدةً لها، وقعَ هذا التناقض غير المحلول، بين إرادةِ الهيمنة الحكومية وحقوق الشعوب. وكانت تلك الإرادة هي المسيطرة، بينما ضاعتْ حقوقُ الناس وذابت إراداتُهم النضالية الديمقراطية.
ولم تستطع الفئاتُ الوسطى إنتاجَ مفاهيم ديمقراطية واسعة منتشرة ومؤسساتها السياسية بل تبعت القوى السائدة وأهم ما لديها هو العنف واستبدال حاكم مهيمن كلي بآخر. ولهذا لم تستطع أن توسعَ الثقافةَ الديمقراطية وفهمها للنصوص الدينية وللعلاقات الاجتماعية بين الحاكم والمحكوم، بين الأمةِ العربيةِ المسيطرة والأمم التابعة لها، بين هيمنة الخراج وغياب الاهتمام بالأحوال العامة، بين العلوم كمكتشفةٍ للسببيات الطبيعية والاجتماعية، وبين الانتشار المتواصل للخرافات.
ومن هنا فقدتْ الأمةُ العربية هيمنتَها وقيادتها على الأمم الإسلامية ثم راحتْ تتفتت إلى دويلاتٍ أصغر فأصغر. وإذا تمت الاستعادات الحديثة شبه العقلانية في الدول المركزية العربية بعض الشيء فإن ذلك تأخر في الجزيرة العربية.
لهذا فإن الإسقاطات المباشرة للعلوم على النصوص الدينية، خاصة في مناطق التفتح الأولي والمناطق الريفية والصحراوية الواسعة، تغدو حادة ومفجرة لصراعات مخيفة.
وتحتاج الأمة إلى انهمار هذه العلوم بشكل واسع، وهي تحمل مفرداتها الفكرية كمفردةِ الكون المتمدد اللانهائي فأين منه تعبير السماوات السبع وآلاف المصطلحات الأخرى التي تنهمر على الطلبة والمثقفين والعامة عموما؟
وهناك حل سهل يتلخص في رفض كل مفردات ومصطلحات العلوم والمدارس الفلسفية المنبثقة منها والاكتفاء بما جاء لدى الأقدمين.
لابد أن تأخذ النصوص الدينية والاكتشافات العلمية حيزين مختلفين ومدارين متباينين، وهذا يتطلب من العلماء والباحثين والمفكرين عدم الزج بمصطلحاتهم العلمية النسبية في المصطلحات والعالم الديني ذي السيرورة الخاصة، بل أن ينشروا العلوم ويجعلوها شعبية من دون المساس بمقدسات الناس.
كما يتطلب من علماء الدين عدم تقصيص أجنحة المبتكرات والمصطلحات العلمية الجديدة وإدخالها في العالم الديني.
هذان سياقان مختلفان.
في التراث توجه مفكرون أو مثقفون نحو الزج بمعلوماتهم الجديدة المأخوذة من الفكر اليوناني في النصوص الدينية بشكل مباشر حاد، عبر قطع سياقات وجمل وقصص ووضعها في السياقات “العلمية”، فيبدو الاختلاف عبر هذه العروض حادا، ويدعو الناس والحكام إلى قطع العلاقة بين العلوم والمخترعات والمجتمع.
والعلمية هذه ليست مطلقة بل تصورات نسبية خاضعة للتعديلات المستمرة ومقاربة الوجود بشكلٍ لا تحدث فيها المطابقة الكلية.
“في صلاة عيد الأضحى المبارك خطبَ الأميرُ خالد بن عبدالله القسري بالمصلين فقال “أيها المسلمون اذهبوا فضحوا أضحيتكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم الذي يزعم أن اللهَ لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلمْ موسى تكليماً” ثم نزلَ على الجعد وقطعَ رأسه”.
هذه الحكاية التراثية تبين أن المثقفَ والحاكمَ اختارا موقفين حادين، فالجعد دخلَ في التراث الديني برؤيةٍ آلية وبإسقاط فج، بينما تحول الحاكم إلى جلاد.
سياق الدين وسياق العلم، مختلفان، ونحن بحاجةٍ إليهما، الأول يؤسسُ القواعدَ الاجتماعية ويكونُ وجودَ الأمم الإسلامية المفارق لوجودِ الأمم الأخرى، مثلما نحتاجُ إلى العلوم لنكون في طليعة هذه الأمم العالمية.
استطاع الأوائلُ القيامَ ببعض ذلك، وصعدوا المسرح العالمي بجدارة، وأصلحتْ الدولُ الأولى من شأنِ التطور لكنها لم تكمله، وبقيتْ الهيمناتُ على الاقتصاد والمال العام، مُقيدةً لفضاءِ الحريات الفكرية، ولانتشار العقلانية والعلوم في الثقافة. ويجب ألا نكرر أخطاءهم وندخل في صراعات جانبية تالفةٍ للجهود والقوى.
صحيفة اخبار الخليج
17 نوفمبر 2010