بينت حربُ أكتوبر 1973 محدوديةَ دولِ المواجهةِ في تأسيس جبهاتِ تحريرٍ ومقاومة، رغم البطولات الكبيرة على الجبهتين المصرية والسورية، وخلقت لغة مساومات متعددة الأشكال، معبرة عن توجه الفئات الغنية الحاكمة إلى الابتعاد عن الحرب الوطنية المستمرة حتى انتزاع الحقوق وتحرير الأرض والسكان، والدخول في كواليس المساومات وتجزئة القضايا المصيرية، والحصول على مكاسب مادية وفيرة، وتقطيع الجبهة العربية القومية لمصالح تلك الفئات ورؤاها السياسية المختلفة.
وفيما دخلت الفئاتُ المصريةُ الحاكمة في عمليات الاستثمار المباشرة الكثيفة مع الاحتلال الإسرائيلي، لجأت الفئاتُ الغنيةُ الحاكمة في سوريا إلى المقاولاتِ النضالية عن طريق أطراف أخرى.
أي أنها تقوم بتوكيل أطراف أخرى للنضال عنها في جبهات محتلة غير الجبهة السورية المحتلة.
كلا الفئات الحاكمة في مصر وسوريا عبرتْ عن مشروعِ الدولةِ الوطنيةِ الشمولية العاجزة عن استنفار قوى المقاومة في الشعوب العربية، نظراً إلى عجزِها عن تطوير الديمقراطية داخل مجتمعيها: المصرية دخلتْ في علاقات المساومة والاستغلال، وتراكم الأرباح، وألغت مشروعَ النضال القومي الريادي الذي كانت تقوده، وجمدت حال الشعب الذي يعاني سيطرتها.
والفئاتُ السوريةُ الحاكمةُ وجدتْ نفسَها في ورطةٍ من غيابِ شريكِ النضال القومي الكبير، وهي من جهتها كانت في وضعِ الفئاتِ المصرية الغنية الحاكمة نفسه: وضع الاستبداد، وعدم تطوير أوضاع الناس ونشر الديمقراطية.
المقاومة لديهم هو الاحتفاظ بوضع الشعب الخاضع ومهاجمة العدو بتكتيكات انتهازية.
لكن القوى الحاكمة السورية لم تترك خيار المقاومة تماماً، ونظرا إلى وضعها الطبقي المميز، المسترخي فوق رقاب الشعب العامل الفقير، فقد وجدتْ قوى أخرى مستعدة للمقاومة عنها، في جبهة أخرى، وبأثمان تدفعها تلك القوى نفسها مالاً ودماً وخراباً فوق مدنها وسكانها.
فيما المقاولُ المقاومُ يحتفظُ بشركاتهِ وفنادقهِ شغالةً في تكديس الأرباح ويحتفظُ برصاصاتهِ صدئةً في رشاشه.
البديلُ الإيراني كان هو الآخر بحاجة إلى واجهة مقاومة اصطنعها ليغطي على العيوب المحورية نفسها في النظامين المصري والسوري، لكن عيوبه جاءته سريعاً والشعبُ الإيراني مازال في حالة الثورة لم ينزل عن صهوات جياده ولم ير تحولا جوهريا في تخلفه وجوعه وحريته، ويريدُ تغييرَ الشمولية التي عجز الشعبان السابقا الذكر عن تغييرها.
وجد النظامُ السوري أن مقاولة المقاومة هي خياره الأكثر فائدة ونجاعة ولحلِ تناقضاته كافة غير القادر على حلها، فالطائفية السياسية غدتْ هي الرافعةُ للنظام من مشكلات الديمقراطية والوطنية والعلمانية، هي حبلُ الإنقاذ القوي في تصوره لمجمل المشكلات التي وقعَ فيها النظامُ السوري نظراً إلى رفضهِ مسلك النظام المصري في القضية الوطنية – القومية، وهي في تصوره متشابكة بين الوطني والقومي أشد التشابك، ومن هنا غدت المقاومة في لبنان طائفية ومرتبطة بسياق النظامين السوري والإيراني، فمن غير الممكن طرح مقاومة وطنية شعبية واسعة في لبنان، وتوسيع جبهتها، أو جعل الدولة مسئولة عن المقاومة، كان هذا يمثل ضربة لمقاولة المقاومة، وتحويلها إلى قضية نضال شعبية وطنية قومية، ووجود قوى شعبية مسلحة ضد الصهيونية معناها ارتدادها على الفئات الغنية الشمولية غير الديمقراطية والخائفة من الشعب.
كما يمكن لمقاولة المقاومة أن ترتد على الشعب نفسه وتقمعه لصالح الدكتاتورية في سوريا وإيران أو في لبنان نفسه إذا توافرت عناصر الهيمنة الطائفية المحافظة الواسعة.
أما أن تغدو تحريراً للأرض الفلسطينية وشعلة للقضية العربية الخالدة، وتكون بديلاً عن الانتهازية السائدة، فهو خطابٌ حماسي لا مصداقية له للأسف.
وتمزيق صفوف البلدان العربية والإسلامية كان من ثماره المرة كذلك.
كان البديل للأنظمة المتراجعة عن حرب أكتوبر ونضالها الكبير هو التوحيد العربي الإسلامي وعدم الدخول في اتفاقيات جزئية، وتوسيع القوى العربية الإسلامية للتصدي للهيمنة الإسرائيلية أو أي هيمنات أخرى ببناء جبهة الحد الأدنى من التضامن والتوحد.
صحيفة اخبار الخليج
11 نوفمبر 2010