لغازي عبدالرحمن القصيبي تجارب إبداعية كثيرة خاصة في العقدين الآخيرين من القرن العشرين ثم في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين الذي لم يكمله. ونلاحظ ضخامة النشاط الثقافي المتنوع وهو أمرٌ أثر في طبيعة الرواية.
كانت روايةُ غازي القصيبي (شقة الحرية) هي أولى رواياته وهي ذات المقاربة مع الرواية الكلاسيكية الواقعية، لكنها روايةٌ تسجيلية محضة، فهي تصورُ فترةً تبدأُ من سنة 1956 ومن شهر أكتوبر فيها وتنتهي في سنة 1961 وبشهر أكتوبر كذلك، وتدور حول مجموعة من الطلبة البحرينيين وزملائهم العرب تعيشُ في القاهرة في تلك الفترة (القوميةِ) الملتهبةِ في صراعاتِها السياسية وتحولاتِها الفكرية والاجتماعية.
التأريخُ جزءٌ من المنهجِ الفني التسجيلي، وهو عمليةُ رصدٍ لما حدثَ للمجموعةِ ولعلاقاتِها فيما بينها وفي محيطِها المصري من مُلاكِ عماراتٍ ومن أصدقاءٍ وعمالٍ يخدمون المجموعةَ ومن علاقاتٍ نسائية تنشأُ في خضمِ ذلك، إلى الدائرةِ الكبرى السياسية الحاكمة والأعمال التي تقومُ بها من سيطرة وتأثيرٍ في المنطقة والعالم.
إن بؤرةَ التصويرِ التسجيلي هي المجموعة، والسارد الروائي الشاعر غازي القصيبي مُلتصقٌ بشخصيتهِ الحقيقية (فؤاد الطارف)، التي يبدأُ منها نسج خيوطِ الرواية.
إنه يفتتحُ الروايةَ:
(كانت الأسئلة التي في ذهنه لا تنتهي. ولا يعرف جواب أي منها. والآن يشغله قائد الطائرة بسؤال جديد)، (شقة الحرية، ط4، ص17) فهو يتتبعُ تفاصيلَ الرحلة الجوية من البحرين للقاهرة بحذافيرها، إنها تولدُ لدى السارد الذكريات الملموسة الحارة المتتالية، وهي تفاصيلٌ كثيرة صغيرة طويلة، لا تدخل معمار رواية مكثفة ملمة بجوهريات الحبكة والمرحلة بل تفترش فيها طولاً وعرضاً، إن الروائي السارد يبقى عند المادة التاريخية الحقيقية، وهو ينتقل من الشعر إلى الرواية، مثلما أن منطقتَهُ الخليجية الجزيرية العربية تنتقلُ من الشعر الرومانسي إلى الرواية التسجيلية في غالب الأحيان، فيسجلُ كلَ شيء وها هو يرصدُ مخاوفَه مما قد يحدث في المطار، ثم يبحث عن أصدقائه ويعثر عليهم بعد زمن وهو يروي كل هذه التفاصيل وهو يتجول، ويشدو بحب مصر، فالناصري العاطفي جاءَ إلى عاصمة (الثورة)، ثم تتالى التفاصيل المختلفة للسكن في شقةٍ غيرِ مناسبة ثم العثور على شقة واسعة مناسبة للعزاب الأربعة الطلبة الذين سوف يسكنون بها، ثم تتالى الفصولُ المتابعةُ للأشهر الدراسية خلال تلك السنوات مفصلة حيناً ومجملة حيناً آخر!
وفي أثناء ذلك تظهر شخصياتٌ ثم تختفي، وتستقر الروايةُ على الشخصيات الأربع التي تعيش في الشقة، وهي أصدقاء فؤاد الطارف، وهو يتحدثُ عنهم وعن سماتِهم الفكرية قبل أن يلتقيهم، ثم تنهمرُ أعمالُهم وقصصُهم في متن العمل، يتكلم عنهم أو يعيشون فقراتهم الخاصة.
الشخصياتُ الأربعُ تنسج شبكة من الأحداث والعلاقات، وهي كلها لها تفاصيلها الخاصة، والساردُ يتسربُ لهذه التفاصيل بطريقة الحكواتي، الذي يقدمُ فرجةً عن كل شيء، إن الشخصيات لا تعيش في منولوجاتِها الذاتية وعلاقاتها التفصيلية فقط، لكنها تعيش مع الخطبِ المطولة عن النظام مع وضد، كل شخصية لها موقف وهذه المواقف كلها تُنشر في العمل.
وتنهمرُ تفاصيلُ التيارات والأحزاب السياسية: الناصرية وهي بؤرةٌ رئيسيةٌ بحكم البلد وقائدها وهزته الكبيرة للعالم العربي، ثم البعث والشيوعية والقومية.
وإذا كان الحديث عن مصر فيتنوع بين الشخصيات بين مؤيد ومعارض، كما تظهر مصر بكل مشكلاتها وتناقضها الرئيسي بين نظام (ثوري) محبوب وعظيم، وبين نظام عسكري حلّ محل الإقطاع السابق وورثه.
والسارد المؤلف موضوعي في سرد الجانبين، ونلاحظ تطور شخصية فؤاد الطارف المجسدة لغازي القصيبي، حيث يبتعد عن الناصرية العسكرية والقومية والبعث وكل التيارات الشمولية مؤيداً الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي بطريقة حزب العمال البريطاني.
هذه العاصفة من التيارات والأفكار والتنظيمات والاجتماعات كلها تُسرد وكأن الروائي مؤرخٌ سياسي معنيٌّ بملاحقةِ كلِ شعيرةٍ من المرحلة.
هذه المقالاتُ والأحاديثُ التقريرية والخطب تتضافرُ مع الحوارات الشخصيةِ الحميمة، والسرد المشهدي التحليلي للشخوص ولحظاتهم الصراعية العنيفة والعادية.
والمواقفُ الحميميةُ للشخصيات من معيشة ولقاءات تنفصل عن صراعات المرحلة، والعروضَ الفكرية لا تندمج في عظام الشخوص، والمواقف الحدثية، بل تنهمر على القارئ حواراً ومقالات.
البؤرة الحدثية وهي الدراسة تغدو عرضية، فيما العلاقات العاطفية والجنسية والفكرية والسياسية تغدو هي البؤرة، هي بؤرةٌ واسعة مشتتة، موزعةٌ على الشخصيات الرئيسية وتنضم إليها شخصيات أخرى ثانوية كثيرة، وتخرج منها من دون علاقة عضوية بهيكل الرواية المفترض، وتدخل حتى شخصيات من الحياة الواقعية كجمال عبدالناصر وإبراهيم العريض ونجيب محفوظ وطه حسين وصدام حسين وغسان كنفاني وغيرهم!
وكلٌ له لحظته من تطور الأحداث الخاصة ثم غيابه عنها.
صحيفة اخبار الخليج
8 نوفمبر 2010