القوميتان العربية والفارسية المتقاربتان على ضفتي الخليج وحدود العراق تشكلتا من خلال مسيرات معقدة متداخلة متصارعة، وترثان صراع الامبراطوريات الكبرى التي هجمتْ كلٌ منها على حدودِ وأعماقِ الأمةِ الأخرى، وشابتْ علاقتهما الكثيرُ من المحنِ والثمار المشتركة المفجرة لثورات النهضة القديمة وكذلك الأخاديد المؤلمة التي تغلغلتْ في العظامِ السياسيةِ والاجتماعية على مدى قرون.
في السنوات الأخيرة تفارقت خطى الأمتين على هذه الضفاف، النظامُ المذهبي الجمهوري الإيراني يمثلُ ذروة تطور هذه الأمة التي وضعتْ عباءةَ المذهبِ الديني وهي تعبرُ من العصور الوسطى نحو العصر الحديث، هذه العباءةُ التي تلاءمتْ مع مسالمة هذه الأمة وبحثها عن التطور السلمي والتي طردتْ بها المغولَ المحتلين، لكن الأنظمةَ الوراثية الاستبدادية حولتها لعملية التهام للقوميات الإسلامية الأخرى خاصة العرب.
كان المذهب الاثنا عشري مذهب السلام المؤسس، المتجنب للاسماعيلية والزيدية الحربيتين، لكن الملوك حولوه إلى إمبراطورية مثل المذهب الحنفي السني الذي تحول بدوره لدى العثمانيين إلى امبراطورية مهيمنة على عالم واسع.
في الشكلين المتصارعين الشيعي والسني الممهورين بخواتم إمبراطورياتِ الارستقراطيين، تم تصعيد عناصر الاختلافاتِ البسيطةِ بين الصحابة، إلى إيديولوجيتين مذهبيتين متعاديتين.
كان التكوينان القوميان الفارسي والعربي بحاجةٍ إلى مثل تلك العناصر الدينية المتصارعة لكي يبرزا من خلالِهما، ويشكلان تاريخين مختلفين للإسلام يمثلان أجنةً لهاتين القوميتين.
وفيما انهارتْ الامبراطوريةُ السنيةُ بقيتْ الشيعية، التي لم تستلهمْ كثيراً العقلانيةَ النصوصيةَ الحنفية ولا العقلانية الحديثة، بقيتْ الامبراطوريةُ الإيرانيةُ وجددتْ نفسَها بصعوباتٍ وتناقضات كبيرة مصعدةً العناصرَ المفارقة لبقية المسلمين.
لكن كان ذلك أغلبهُ في العصرِ الوسيط وبعضه في العصر الحديث.
إن المشروعَ القومي الإيراني كان بحاجةٍ إلى العباءةِ المذهبية، وربما لايزال، وهو مترددٌ مضطربٌ بين مشروع الامبراطورية المذهبية وبين الدولةِ القومية الديمقراطية.
مشروع الامبراطورية يؤدي إلى التصاعد العسكري، ومشاكل الحصار والعقوبات والأزمات المعيشية والشمولية.
ومشروع الدولة القومية الديمقراطية يتطلب طبقات وسطى واسعة وازدهار الصناعات والتجارة الخاصة فيظهر الخوفُ من تفكك الدولة واستقلال القوميات.
إن القوميات الأخرى غير الفارسية كالعربية والكردية والبلوشية تتحرك هي الأخرى ولا تسمح لها قدراتها الاقتصادية والاجتماعية بأن تكوّن دولاً مستقلة، وهو أمر تفتيتي خطر.
القوميةُ العربيةُ التي ظهرتْ كأجنةٍ في المذهبيةِ السنية والوعي التحديثي لم تتمازجْ هي الأخرى مع الديمقراطية، فخوفتْ الأقليات والمذهبيات والأديان والقوميات الأخرى، ومرتْ فترتُها الذهبية الحديثة ولم تقمْ بتجارب انصهارية بين القومية والديمقراطية، وجاءتْ المذهبيةُ السنيةُ المحافظة على أعقابِ هذا الفشل وكانت أبعد كثيراً عن القومية والديمقراطية معاً.
وهي تعبيرٌ مذهبي يعود إلى العصر السابق ليس عن القومية العربية فحسب بل عن قوميات أخرى كالكردية والافغانية وعن تراجع العلاقات الاجتماعية المتطورة فيها وصعود البداوة وآفاقها السياسية الضيقة. وهو أمرٌ يعبر كذلك عن عدم تطور العلاقات الديمقراطية في تلك القوميات والشعوب الإسلامية.
واتضحَ ان أي تطرفٍ فيها مثل القاعدة يؤدي إلى حرقِ العلاقات الأخوية بين القوميات والأديان والشعوب والمذاهب جميعاً في المنطقة.
الحركةُ البندولية القومية المذهبية وصلتْ عبر هذا كله إلى اقصى تطرفها، في الجانبين الفارسي والعربي، ولم يعدْ ثمة إمكانية للتصعيد وإلا وقع الخرابُ للجميع.
لا شك أن القادة والمسئولين في الدول الإسلامية يحسون بالخيوط المرهفة لمثل هذا الغول الذي يكبرُ يوماً بعد يوم، ويَعدُ بالتهام الجميع، وبأن تَكونَ الدول الوطنية والقومية ينبغي أن يغدو مصهراً لجميع المواطنين، وأن الثقافة السياسية المذهبية لم تعدْ مفيدةً كتمييزٍ للمواطنةِ والقومية.
صحيفة الوسط
6 نوفمبر 2010