لم تشهدْ الطوائف الإسلاميةُ خلال القرنِ العشرين حروباً بينها، وانغمرتْ الجماهيرُ بشكلٍ عامٍ وواسعٍ في الحروب من أجلِ التحرير والاستقلال والنهوض، نظراً لصعودِ أفكارِ النضالِ الوطني الديمقراطي العلمانية عامةً كسحابةِ ربيعٍ عابرٍ عظيم، لكن هذه الأفكار كانت قشرةً رقيقةً فوق الجسد الاجتماعي العربي الإسلامي الذي لم يظهرْ بعدُ من تحتِ جليدِ القرونِ الوسطى إلا عبر رؤوسٍ صغيرة.
بعد الاستقلالات الوطنية ولمددٍ معينةٍ حسب الدول ومستويات تطورها، انجرفتْ هذه الأفكارُ للصراع بينها بأشكالٍ مختلفة متخلفة وبعد عقود تآكلت.
الأجسامُ الغارقةُ في محيطِ الماضي تصاعدتْ، والبُنى الاجتماعيةُ ظهرتْ على حقيقتها، والمكياجُ الحداثي للقرنِ العشرين تساقط، وبان توجهُ القوى المحافظة لاستعادةِ الهياكل المتخلفة السياسية والايديولوجية لما بعد سقوطِ الدولةِ العباسية.
كانت هذه العودة بسببِ الذعر السياسي من الماركسية الانقلابية الاستئصالية للأديان، ولقوى الاستغلالِ المرعوبةِ من مثل هذه البرامج الخطيرة، ولهجومِ قوى الغرب الاستعمارية والحداثية معاً في تشابك معقد، فراح العالمُ العربي الإسلامي يتخلى عن رموزِ النهضةِ في الزمنين القديم والمعاصر، ويحولُ أبطالَهُ التوحيديين إلى أبطال مذهبيين، ومضى هذا العالم يتفككُ سياسياً وايديولوجياً في قيعانه التحتية، عبر تسييسِ دور العبادة، وتفعيل المناسبات الدينية بأشكالٍ من الهوسِ ومن القراءاتِ السطحية للتراث، ومن التحفيظ النصوصي المسدل ستائر العتمة على العقل، وتم إغراق العروبة وازالتها بدعوى علو الإسلام عليها، وبنشرِ المؤلفات العتيقة ودرسها كأنها درر الزمان، وتحويل الشباب إلى كهول محنطين جسدياً وعقلياً، ومجزئين للمعرفة عبر حفظِ الشعاراتِ السياسية الصفراء، وبنفخِ الروحِ الطائفية فيهم، وتوجيههم للعداء للحداثة والنهضة والعروبة.
الحركاتُ السياسيةُ الطائفية تحولتْ إلى دول.
كانت الأنظمةُ العربيةُ والإسلامية على تبعيتِها أو تحررِها الجزئي تمثل مقاربات متعددة مع الغرب الديمقراطي بأشكالٍ متباينة، ولم تستطعْ بطبيعةِ أحوالها أن تجذرَ هذه الحداثة، باختلاف بعض دول المغرب العربي الأكثر قرباً منها، فيما كانت دولُ المشرق أكثر بعداً عن الحداثة.
فهي تحملُ مواريثَ الأديان الكبرى التي صيغتْ وهُيمن عليها من قبل قوى التخلفِ والاستغلال على مدى قرونٍ طويلة، ولم تُحلْ التناقضاتُ بين هذه الأديانِ والمذاهب، وأُضيفتْ كارثةٌ أخرى بتشكيلِ دولةٍ يهوديةٍ غيرِ ديمقراطيةٍ وغيرِ علمانية، وهي شكلٌ آخر للاستعمار الغربي العنصري القديم، ولم تُحلْ قضايا الصراع بين الطوائفِ الإسلاميةِ أثناء التحرر الوطني وزمن دول الاستقلال.
وجاءتْ العودةُ للماضي المحافظ لأسبابِ صعودِ النفط وقدرته على تجديدِ الدول ذات الجذور الإقطاعية الواسعة، وصباغة القبح الماضوي بألوانٍ تحديثية زائفة.
وهكذا بدتْ الثورةُ الإيرانيةُ الشعبية للشباب المعبأ ايديولوجياً في ظلِ المنظماتِ الطائفيةِ كانفجارٍ سماوي غيبي قادرٍ على النقلِ الفوري لصيغٍ غامضةٍ من السعادةِ الأبدية والجنان الأرضية، وهو أمرٌ مثل قطعاً بنيوياً حاداً في تطورِ الإثناعشرية المتدرجِ المحافظ الهادئ، وجرَّ قسماً كبيراً من الشيعة للمغامراتِ السياسية المحفوفة بالمخاطر على إيران أولاً والمنطقة ثانياً.
الأقسامُ الصحراويةُ والقروية الشديدة العزلة التي لم تشهد تطورات فقهية نهضوية جنينية في الماضي خاصة في إيران والجزيرة العربية كانت حبلى بتأييدِ التطرف القومي أو التطرف الديني، ولسانها يهتفُ اما عرب وإما فرس، وكان الهجومُ على القوميةِ العربيةِ في الجزيرةِ العربية نفسها يمثلُ انتكاسةً للوعي العام الذي حُضر للانتقالِ للنزعاتِ الطائفية الحربيةِ عبر الهجوم على اليمن التحديثي الناشئ أو عبر الاشتراك مع القوى الغربية لضربِ دول القومية التحررية التي لم تكن تقدمُ هي الأخرى بديلاً عربياً قومياً تحررياً ديمقراطياً، لكن الطرفين العربيين خسرا المستقبلَ ولم يربحا الماضي.
بل راحتْ الدولُ العربيةُ القوميةُ التحررية تتآكل غير قادرةٍ على مجابهةِ النزعاتِ الطائفية المتصاعدة، بل تشجعها وتستغلها في المعارك السياسية الصغيرة وتقدم لها الأسلحة للتدرب على الهجوم عليها مستقبلاً كما في بلاد الأفغان.
وإذ ظهرتْ الدولةُ الشيعيةُ الإيرانية القومية كعدوٍّ للغربِ فإن المقصودَ من ذلك هو عداؤها للحداثة والديمقراطية، وهو أمرٌ تجسدَ بسبب ضعفِ الهياكل النهضوية وتآكل قوى المثقفين الديمقراطيين وهيمنة الوعي الإقطاعي عليهم، وكذلك الوعي القومي المحافظ الغائر. السيادة الذكورية المتخلفة، وضعف العناصر العقلانية وحفرياتها في المذهب الشيعي، كل هذا جعل الإيرانيين يخضعون للدكتاتوريةِ الدينيةِ العسكرية ومخاطرها الحربية.
صحيفة اخبار الخليج
1 نوفمبر 2010