وجودُ الطوائفِ هو بحدِ ذاتهِ تاريخٌ عنفي سابق.
ولعدمِ تشكلِ الأمم الإسلامية نفسها كشعوبٍ حرةٍ ديمقراطيةٍ شكلتْ نفسَها بشكلِ طوائف.
حين ينقدُ الطائفيلا القمعَ القانونيَّ في بلدهِ ويحجبُ نقدَهُ عن نقدِ نظامٍ آخر يقمعُ بشدةٍ عنفية هائلة وبلا مسوغاتٍ قانونية جماهيرَ طائفتهِ نفسها لكنها الثائرةَ الحقيقية من أجلِ الحرية والديمقراطية يقعُ في تناقضٍ عميق، هو تناقضُ الطائفي مع ذاتهِ غيرِ الحديثة وغير الديمقراطية.
لماذا صرخَ هنا وسكتَ عن هناك؟
لماذا أدانَ قمعَ بضع عشرات من الفوضويين وسكتَ عن جماهير بالملايين مقموعة ومضطهَّدة وهي من ذاتِ المذهب المرفوع للقداسة الأبدية؟
لقد أخلَّ بمصداقيةِ خطابه في العقيدة والحداثة.
وهو أمرٌ مماثل لما يفعله طائفيون آخرون يسكتون عن ذبح مئات من الطوائف في بلدٍ ثالث، والذين يشوونَ حرقاً وتمزيقاً في مسلخِ الصراع الطائفي من دون ذنب سوى أنهم قوم مسالمون متعبدون!
صمتٌ وكلامٌ مؤدلجان موظفان بحسب المصلحة السياسية الجزئية المنزوعة من التحليل الموضوعي الواسع، والخطير ان ذلك يجري مع عزف الفرقة الموسيقية الطائفية التي ترفعُ أصواتها أو تخفضها بحسب قيادة الموسيقار السياسي الطائفي.
يهزُ عصاه فتسكتُ أو يرفعُها فتتدفق.
وهي تطفئ نورَ عيونِها عن مشهدٍ ملأ المسرحَ العالمي وتضعُ نظارات سوداء ولا تنظرُ للجماهير المُطَّاردة في الشوارع، ثم تبحلقُ بشدة لأن ثمة مجموعة تحرق.
هي نفس جماهيرها لكن المايسترو يقول أن لحمَ هؤلاء الضحايا من أصحابِ الحداثة الديمقراطية ونحن قوم تقليديون محافظون اتباع رجال الدين الريفيين الذين يصيغون المذهب بحسب تصورات العصور الوسطى غير قادرين على التطور الديني التحديثي فلا يمكن أن نؤيد سوى خصوم الحداثة من جماعتنا.
إن هذه الجماهيرَ الطائفيةَ نفسَها في بلد الثورة والنضال تطورتْ، ونزعتْ عن نفسِها الطائفية وتوطنتْ وتحدثتْ، أي صارتْ تناضلُ من أجل وطنٍ موحد تحديثي ولم تتخل عن دينها، ولكن لم تعدْ الطبعةُ الريفيةُ من الثورة صالحة للاستعمال، إن مركز الطائفة نفسه تقدم، وراحت المدنُ الناهضةُ تقود الطائفة الآن، وبقيتْ هذه الجماهير الريفية تجترُ كلماتها القديمة.
إن مسافةً كبرى تتشكلُ في الطوائفِ نفسِها، ففي البلدِ المركز للطائفية لم تعدْ الطائفيةُ السياسيةُ قادرة على دفع البلد إلى الأمام، بل تمثلُ مصدر اضطراب وهدر للثروة مع اختلاط هذه الطائفية بتعصبٍ قومي كبير، وسيأتي يوم تنفجر تناقضاتها وتخسر سنوات وثروات هائلة، وتشكل اضطرابات سياسية وايديولوجية، والطائر الذي يحلقُ يسقط فجأة.
كما حلقتْ طيورُ الشيوعيةِ والقوميةِ والناصرية ثم هوتْ على الأرض ولم تعرفْ ماذا تنتجُ حقيقةً من أنظمة، ولماذا تهدرُ الثروات وتجيش الجيوش في سبيلِ حكوماتٍ شمولية لا مستقبلَ لها وتصنعُ الانتهازيين الذين سوف ينفضَّون عنها ساعة المحنة، والآن جاء الدورُ على الطائفيات (الثورية) المحلقة في أجواء الفضاء، نريدُ أن نخففَ وقعَ هبوطها الحاد على الأرض، وأن تفرق بين الخرافات والعلوم، وأن نكشفَ الجحيمَ الأرضيَّ الذي تصنعه قبل أن يأتيها الجحيمُ الحقيقي.
قال الجاهليون: انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً!
وجاءَ الإسلامُ وقال انصرْ أخاك ظالماً ومظلوماً، فقالوا كيف نكونُ مثل الجاهليين؟
قال انصرْ أخاك مظلوماً، وأن تنصرهُ ظالماً بأن تمنعهُ من الظلم وتُنزلَ يدكَ على يدهِ تحبسهُ عن العدوان فيتحول عن الظلم وليس أن تكرسَ الظلمَ فيه.
الجاهليون قبليون وجاء المؤمنون بعد حين وورثوا القبلية، التي صارتْ طائفيةً، فرددوا أقوالَ الجاهليين وميراثهم، فيجب بحسب رأيهم أن تكونَ مع طائفتك ظالمةً أو مظلومة، من دون أن تضع يدك على ظلمِها فتمنعهُ وبضرورة أن تبصرَها بالحق والعدل ومجاراة الإنسانية في تطورها وحضارتها.
وهذا ما أوجد لهم الفتن والاضطرابات والتخلف إلى حين.
صحيفة اخبار الخليج
30 لكتوبر 2010