تعبرُ الإضراباتُ الواسعةُ في فرنسا والاحتجاجات في بريطانيا عن وصولِ دولِ أوروبا الغربية إلى مرحلةِ الشيخوخةِ الرأسمالية، فشعبٌ كبيرٌ ينزلُ للشوارع لكي يدافع عن سنتين يُراد سرقتهما من تقاعدهِ المريح ليست دليل رفاهية لأممِ الرأسمالية المتطورة.
والشعبُ البريطاني يصوتُ للانسحاب من تكاليفِ الحروب الساخنة التي تشنها الولاياتُ المتحدة الأمريكية في دولٍ عديدة مُصدِّرةٍ للإرهاب كما تقول، ويقلصُ أعدادَ جيشهِ الذي كان ينتشر في إمبراطورية لا تغيبُ عنها الشمس.
الشعبُ الفرنسي يواصلُ دورَهُ الثوري في تاريخ العالم، ولكن ليدافع عن لقمةِ عيشهِ واستمتاعه بحياته، فهو شعبُ المآدب والأفراح وليس شعب الخدمِ للبيروقراطية الحكومية والرأسمالية الكهلة اللتين عجزتا عن البحث عن مصادر لتطوير الميزانية فتوجهتا لأموال التقاعد وسرقة الشيخوخة الكادحة في آخر لحظات عمرها.
ويعكسُ الوضعُ الفرنسي على نحوٍّ نادرٍ بين الدول الغربية تنامي قوى اليسار على مستوى الشارع، وغيابه عن المؤسساتِ الحكوميةِ التشريعية والإدارية، وهو أمرٌ يعبرُ عن استغلال الحزب الاشتراكي الفرنسي خاصةً الوضعَ المتأزمَ ليوجه ضربةً كبيرةً لحكم اليمين، فيدخل الانتخابات التشريعية والرئاسية من أجل فوزين على المستوى التشريعي والمستوى الرئاسي. بينما الحزب الشيوعي الفرنسي ليس له أفق كبير في الكراسي لإشكالياتٍ كبيرة تتعلق باستراتيجية القضاء المبرمة على الرأسمالية التي هي غير ممكنة حاليا، ولم يتعلمْ من الحزب الاشتراكي حرب العصابات الاجتماعية التي تغيرُ الحياةَ على المدى الطويل.
وحكومةُ الولايات المتحدة توجه الإنذارات لحكومة بريطانيا بسبب تقليصِ أعداد الجيش، والتهديد بالانسحابات من العمليات العسكرية في العالم الثالث، فهي الآن – أي الولايات المتحدة – تقومُ بالمهمة الرئيسية للدفاع عن الأمن في العالم، الذي هو أمن نمو الرأسماليات الكبرى الغربية، التي وصلت إلى مرحلة الأفول التاريخي، وهو انطفاءٌ تدريجي طويل تتصاعد فيه قوى ليبرالية وديمقراطية شعبية واسعة، تطرح صيغاً جديدة لنمو الرأسماليات الغربية العالمية، كما تزدهر فيه رأسماليات شبابية كالرأسماليتين الصينية والهندية القادرتين على التوسع لضخامة سوقيهما العملاقتين والدفاع عن أنفسهما.
مستوى الرأسماليات الغربية الراهنة الكبرى هو الدفاع عن مصالحها من دون القدرة على تطوير الرأسماليات الوطنية الفتية في الدول النامية بل تعمل على استغلالها السريع، وخاصة الدول التي تملك ثروات المواد الخام المرتفعة الأسعار.
ولا شك أن القادمَ هو تعاونٌ أكثر عمقاً بين رأسمالياتِ الشيخوخة الغربية والرأسمالياتِ الفتية في العالم الثالث، بشرط أن تتطورَ مواقع اليسار والقوى الديمقراطية والشعبية في هذه الدول، وتستطيع تكوين رأسمالية يلعبُ فيها القطاعُ العام والقطاع التعاوني وأرباب العمل الصغار والنقابات أدواراً جديدة.
وهذا يتطلب كذلك من فتيةِ الرأسمالية الدينية في البلدان العربية أن يخففوا الأدلجات ويركزوا في تطوير الأسواق وتغيير نمط القوى المنتجة العربية والإسلامية، وأن يقاربوها بالثورة التقنية المعلوماتية، بدلاً من العسكرة وإهدار الأموال على العنف والتسلح.
إن أبواب الحروب الغامرة بالأرباح سوف تُسد مرحلة بعد أخرى، رغم أن بلادَ المسلمين خاصةً لاتزال تغدقُ المليارات بمغامريها العسكريين وببلدانها الخائفة من العسكر والتطرف الديني، فهي قوى إنعاش هائلة للشيخوخة الرأسمالية الغربية، لكن هناك قوى في هذه البلدان كأفغانستان وباكستان، تمثل مصدري استنزاف، فقوى العسكر المتخلفة وتجار المخدرات ورؤساء القبائل تعتبر الرعب الغربي مصدر ثراء لا ينضب.
أما إيران فتمثل حالة خاصة فهي السوقُ الكبيرة المحَاصرة التي تدمرُ نفسَها بنفسها وهي تظنُ انها تصنع مأثرة الأمة الكبرى.
إنهم يمثلون رأسماليات الطفولة المجنونة، حيث تتراكم رؤوس الأموال عبر مطاردة الغربيين، فإذا جاءوا أنهكوهم وإذا فروا طاردوهم، وضرب بلدانهم الريفية الجبلية لا يؤدي سوى إلى التخلص من الفيض السكاني.
فرقٌ هائل بين شعوب تدافع عن أجورها وتقاعدها بالرقص والاحتفالات والغناء وشعوب تحرق وتضعف بلدانها لكي تدافع عن تجارة الحشيش والعودة للظلامية والطائفية والأمة العليا.
صحيفة اخبار الخليج
27 اكتوبر2010