المنشور

انفصال السودان

كيانٌ سياسي آخر تخطفهُ الدولُ والحركاتُ الدينية والوضعُ الدولي الاستغلالي، وهو السودان من سكةِ الوحدة.
قوانين و”سببيات” الانهياراتِ السياسية نفسها التي نشهدها في العالم العربي الإسلامي المسيحي: سلطة دينية مركزية تعجزُ عن إنتاجِ حداثةٍ ديمقراطية وطنية، فتجعلُ الفسيفساءَ الدينية والعرقية تشتعلُ بالخلافات والصراعات وتجدُ الحلولَ في كوارث جديدة.
والسلطة العالمية تتمثلُ في مركز مسيطر مسيحي يعجز أكثر فأكثر عن السيطرة على الحركات الانقسامية العنفية التي تتنامى في العالم النامي، فيقترحُ مزيداً من التفكك، ومزيداً من المقاربةِ مع سلطاتٍ جديدة هي نفسها عاجزة عن التوحيد الجديد.
في حالة السودان كانت الحركاتُ الدينيةُ ذات الادعاءات بالحكم الأخير للتاريخ والايديولوجيا الانقلابية، قد واجهتْ بمقولاتها الباترة الحركات الوطنية التحديثية الديمقراطية الجنينية، والحركات الدينية التقليدية معاً، بأنها تستطيع أن تضعَ حدا للتمزق والتخلف وذلك عبر وصفةٍ صغيرةٍ مكتوب فيها تطبيق حكم الله وانتهى الأمر.
وانجرت الحركاتُ الوطنية والتحديثية إلى منطق الانقلابات والعنف، فمزقتْ بعضها بعضاً، وهذا يشيرُ إلى ناحيةٍ جوهريةٍ في التنظيماتِ العربية السودانية الشمالية والجنوبية كذلك، هي العجز عن تغيير طلائع الشعب وتنفيذ مهمات التنوير الواسعة بالقفزات الهوائية وعبر نقل التكتيكات العالمية لمجتمعات أخرى أكثر تطوراً، إلى شعوب من الرعاة والمزارعين.
فكانت جبهة “الإنقاذ” تتويجاً لهذا العجز عن النضال السلمي ونشر التنوير والتحديث، فعبر السحر الديني وحكم القوة المتوج بهيمنة الجيش وضباطه الكبار، تم التصور بإنقاذ السودان دفعة واحدة من البؤس والتمزق.
وعبرَ ذلك عن انتصارِ المحافظة الشمالية وهي ميراثُ الاستبدادِ والقوى البيروقراطية والعسكرية على مدى التاريخ الشمالي من خلال ترابط السودان بنظام محمد علي ونظام القنانة، وبمحاولاتِ ركض السودان وراء الحداثة المصرية العسكرية والديمقراطية من دون أن يمسكَ سوى صعود العسكر، ثم تسييس السحر الديني عبر الاخوان وقدرته الإعجازية على حلِ مشكلات المسلمين الخالدة، وتغييب غيرهم من أهلِ الذمة المذمومين.
السودان الذي يفرطُ في فلذةِ بلده الجنوب وربما في عبده الذي استكانَ طويلاً ثم ثارَ بعنف، يطرحُ على جيرانهِ التفتتَ لعجزِهم عن حلِ بداياتِ النهضةِ والديمقراطية والعلمانية.
كيانان سياسيان شمال وجنوب التصقا برابطِ العنف المكرسِ عبر العصور الوسطى، شمال يعيشُ في مدنٍ وقرى وفي مستوى أكبر من التحديث، وجنوب يعيشُ في غاباتٍ وأكواخٍ وحقول بسيطة تحرثها النساء، وبين هذا وذاك رعاة يتنقلون بين الجنوب والشمال وتحتهم بحرٌ من النفط.
تقدمتْ اللغةُ العربية لدى الجنوبيين المثقفين وكان هذا يمكن أن يشكلَ رابطةً وطنية وعبر تحولات اجتماعية أساسية، لكن حركات القفزات والشمولية الدينية الشمالية قطعتْ هذه التراكمات مصرةً على التذويب، في حين حافظ الجنوب على دينه المختلف ولغته وثقافته، ثم حصل على السلاح، وذات اللغة السياسية المؤدلجة الانفصالية.
صارتْ السيطرة على منابعِ النفط جوهريةً في عملية الانفصال، فبدلاً من أن تأتي الفوائض المالية عبر العاصمة الشمالية يتم انتزاعها مباشرةً، وبالتالي تخلق فئات مالية سياسية منتفعة في الجنوب.
أما أحاديث جبهة تحرير جنوب السودان عن الكادحين واليسار وعيش الجنوب بسعادةٍ كبيرة من دون الشمال “المسلم” و”المتخلف” فهي تشكيل للحمة سياسية مؤيدة لصعود هذه الفئات السياسية المنتفعة عبر عامة متخلفين مأزومين، ثم تكرُ السبحةُ في اختلافات جديدةٍ وتمزقات أخرى وتضيع الثروات، لأن بوابةَ الانفصالِ العنيف المفتوحة وتكوين القوى الاستغلالية لن تُغلق نهائيا.
انقذتْ حركةُ الانقاذِ السودانَ من الجنوب.
وأنقذتهُ من حربٍ واحدة بمجموعةٍ واسعة من الحروب.
وأنقذتهُ من كونهِ البلد المسالم وسلة الغذاء وحولتهُ إلى البلد المحاصرِ الجائع المتصارع على بركةٍ من النفط الذي سالَ له اللعابُ الدولي.

صحيفة اخبار الخليج
19 اكتوبر 2010