المنشور

تراجع الانتفاضات الشعبية (4)

لم تتعرف الحياة السياسية في البحرين ما بين 1920-1930 إلا على حركة تمرد وعصيان الغواصين «البحارة» وهي عادة ظاهرة دائمة يقوم بها البحارة في العالم إما على متن السفينة «تمرد السفينة بونتي/ فيلم» أو على اليابسة، فكانت هبة الغواصين المحلية عن السلفة حركة نصف عنيفة حطمت مخازن المواد الغذائية، وحملت مطالب إصلاحية لظروفهم وحياتهم المعيشية في زمن الغوص .
بعد ظاهرة التمرد الاجتماعي الاقتصادي، انتهى دور البحارة في التاريخ السياسي والمجتمع التقليدي، حيث تصبح شركة بابكو «1938» المصدر الجديد لمشروع لتصاعد الفكر القومي واليساري في الخمسينات كمحفز ودافع للأنشطة النقابية والشعبية، إذ ستكون ركيزة الاقتصاد النفطي الجديد مشروعا لوحدة شعبية لنسيج اجتماعي أكثر تطورا من بنية فك القرية والفئوية، ستبدو قوتها وأهميتها مع أول انتفاضة شعبية تديرها الهيئة الوطنية العليا ودامت لمدة عامين 54-56، إذ لم تسبقها انتفاضات شعبية تذكر فيما عدا تلك الاحتجاجات الجماهيرية، التي أعقبت تقسيم فلسطين، فكانت عبارة عن زخم شعبي احتجاجي لا غير على واقع خارج البحرين، لم ينمُ إلى فعل داخلي ويتحول لمواجهة شعبية ضد الانجليز على شكل انتفاضة . دون شك مثل تلك التظاهرات هيأت مناخا شعبيا سوف يتبلور لاحقا وبعد ثمان سنوات عجاف عرفتها البلاد خلال الحرب العالمية الثانية وما تلاها من سنوات كانت البحرين وحركتها السياسية بحاجة إلى التقاط أنفاسها وبلورة مشروع فكر سياسي يؤمن بالانتفاضات الشعبية كشكل لتغيير نمط المعيشة، وإنما انحصرت تلك الانتفاضة وغيرها بأهداف سياسية لم تتجاوز سقف رحيل الاستعمار الانكليزي وترتيب إصلاحات في البنية السياسية والقضائية والاقتصادية وغيرها من مؤسسات .
بعد القضاء على حركة الهيئة سنة 1956 لم تعرف البحرين إلا بعد تسع سنوات الانتفاضة الثانية والتاريخية عام 1965، إذ تخللت السنوات التسع تظاهرات احتجاجية غالبيتها سياسية وانحصرت في الشأن الجزائري واليمني والوحدات العربية بخيباتها . ما حدث في عام 1972 لم يتجاوز مفهوم «المسيرة العمالية» وهي في عهد الاستقلال الوطني واستمرت لمدة أسبوع لا غير انتهت فيها الحركة دون نتائج تذكر إلا تلك الاعتقالات والتسريحات من مراكز مهنية حساسة خسرت فيها الحركة الوطنية مواقع مهمة كان من الضروري الحفاظ عليها’ ستكون الحركة السياسية منشغلة 1972-1976 بالخطب السياسية والمهرجانات الثقافية والشعر والإضرابات المتسارعة غير المدروسة لا امنيا ولا تكتيكيا، فتم وأدها بكل سهولة إذ من قادوا عملية تحريك الشارع السياسي تاقوا لزعامات جماهيرية مستعجلة ومكاسب طفيفة تم خنقها دون تعب من السلطات . الفترة الفضية للمجلس النيابي كانت نتائجه الايجابية محدودة ولكن نتائجه السلبية كثيرة يحاول رجالاته عنوة تمجيده، لمجرد إنها جاءت كمرحلة انتقالية ما بين فترتين ما قبل الاستقلال وبعده، حيث كان النظام يؤسس لمرحلة جديدة تفوق فيها المداخيل النفطية حالة أسطورية للمنطقة، فلم تكن دول ضفاف البحرين راضية عن شغب لا جدوى منه يربك تفاصيل المؤسسات الرأسمالية العالمية، سواء في مجلس الأمة الكويتي أو المجلس الوطني في البحرين. كان من الضروري لحسابات الأنظمة والمرحلة إقفال تلك النوافذ وتشويشها المستعجل. بعد مصادرة الحياة النيابية واغتيال المدني بعد عام، دخلت البلاد موجة من الرعب السياسي 75-76 كان لا بد من سيناريوهاته أن تقفل مرحلة سابقة استعدادا للطفرة النفطية الثانية، التي أعقبت «الأولى 73 والثانية 76-78 « فانتفخت خزائن دول منطقة الخليج . الرياح القادمة من إيران عام 1981 ستدخل البحرين في موجة تظاهرات دينية وطائفية، وطلابية كشعار صيفنا الحار الذي رفعته الجبهة الشعبية، ونستطيع أن نؤرخ بأن الجبهة الشعبية منذ تلك اللحظة سارت خلف تظاهرات المجموعات الدينية وكانت في البداية متمركزة في أحياء العاصمة . باكتشاف مجموعة «72» تكون عملية الزخم الاحتجاجي في الشارع بدأت في تراجع، ولكنها لم تستطع الارتقاء بمشروعها بصنع انتفاضة شعبية لم تكن التظاهرات اليومية أو الأسبوعية ولا بعض الصدامات العنيفة في المخارقة فاعلة بشكل مؤثر، فالحماس والانجرار وراء الثورة الإيرانية حتى عام 1983 بات مشكوكا في توجهه كحركة تحرر وطني بعد ارتداد الثورة على الحركة الشعبية الداخلية التي وقفت معها كوقود ما بين فترتي 1981-1983، إذ سينقلب رجال الدين على مجمل الحركة الشعبية والعمالية الإيرانية . وكان انعكاس الوضع في إيران بدا واضحا على حركة اليسار البحريني وكل تجمعاته الليبرالية والقومية، فظلت الحركة الدينية بمفردها تغني مع الموال الإيراني ترافقها بعض التصفيقات هنا وهناك من الجبهة الشعبية، والتي كانت في حينها تشكو حالتها التنظيمية . فلم ننتج انتفاضة منذ 1965 حتى 1999، فتمدد الزمن إلى 34 سنة بالكامل يشهد اضطرابات واحتجاجات لا غير.
 
صحيفة الايام
19 اكتوبر 2010