لكل انتفاضة تعريفاتها ومضمونها، بل ولا يمكننا أن نزج تعبيرات العصيان المدني والاحتجاجات السياسية المهنية والطلابية وغيرها في سلة واحدة، الجزئية الضيقة أو الواسعة، فهي تبقى ناقصة باتساعها وأهدافها طالما انها لم تمس كل الشعب، كل السكان، الذين يشكلون تركيبة ونسيج مجتمع ما، إذ لا يمكن نجاح أية حركة مجتمعية في مشروعها السياسي دون الالتفاف الشعبي الواسع والكامل حولها، ومتى ما انقسم الشعب إلى أطراف مختلفة ومتنازعة ومتباينة، فان المواجهات لتلك المجموعات التي قررت تنفيذ مشروعها لوحدها لا بد وان تنتهي بالفشل، حتى وان ادعت أن مضمون أهدافها وطنية وديمقراطية وحقوقية، فكل شرعية الحركات الوطنية تستمدها من الإجماع الشعبي حولها، فلا يمكن قياس مؤثر الطبقة العاملة في الوضع السياسي والاقتصادي مثيلا لدور مجموعات من الشباب العاطل المتناثر، الذي يرى في مجرد حرق الإطارات تعبيره «النضالي !!» المحبط، متوهما أن الأدخنة المتصاعدة تربك النظام السياسي وتمنح الإعلام الخارجي فرصة التطبيل.
هؤلاء الذين يقودون شارعا من هذا النمط سيجدون على مدى الأسابيع أمامهم تنتصب أسئلة حرجة من نوع ماذا حققنا؟ وما جدوى فعلنا؟ وهل تعاطف الشعب معنا وانتفض مؤيدا واتسعت جماهيريتنا أم ظللنا مجموعة صغيرة خارج القانون نمارس أعمالا بهلوانية وصفت بالبطولة الكاذبة أكثر من كونها أعمالا وأنشطة مؤثرة، فالأحجار المبعثرة وحرق الأمكنة المدنية وأجهزة عامة وسيارات وغيرها، تدخل تلك المجموعات في مصيدة الخطيئة العمياء، فانفلات الشارع بدون قيادة واعية موجهة وواعية لفعلتها وأبعادها، ليس إلا دليل يأس وإحباط يواجهه المهزوم ولو مؤقتا، بحيث تختلط عليه الأوراق والفروقات بين العمل التخريبي والتحريض السياسي الشرعي في أي مجتمع ديمقراطي يجيز لك حقوق واضحة، حتى وان اختلف المجتمع على تصنيفها وتعريفها واستيعابها وتحديدها، فلكل اتجاه وفكر وطبقة تفسير مختلف للحياة السياسية القائمة، فلسنا هنا بصدد سؤال هل يحقق المشروع الإصلاحي للجماعات الرافضة طموحهم السياسي وهم يحملون في داخلهم منظور وأجندة عدائية؟ مبنية على روح التشكيك وفقدان الثقة في إمكانية العمل من خلال «الواقع الملموس» بدلا من القفز في الفراغ والعدم؟! لقد وجدنا في التسعينات محاولة إضفاء صفة الانتفاضة الشعبية على حركة سياسية كانت لها منطلقات العرائض أولا كحركة احتجاجية سياسية مطلبية، حتى تبلورت في أعمال عنف محدودة، وتخريب محسوس واحتجاجات على شكل تظاهرات جزئية تسمى في العرف السياسي «بالمظاهرات الطائرة» وهي كثيرا ما تم استخدامها من قبل اليسار في الأنظمة العسكرية والدكتاتورية، بحيث لا تمنح الأجهزة الأمنية فرصة الانقضاض عليها لسرعة حركتها وقدرتها على الاختفاء والتلاشي في الأزقة، وفي ذات الوقت تبرز مجموعة أخرى هنا وهناك بنفس الطريقة فيتم تشتيت رجال الأمن وقوتهم في المدن الكبرى والضواحي، حيث تصبح هدف المظاهرات الطائرة بلورة الوعي العام وتحريضه بأهمية الموضوع السياسي وتعبئة الناس بفكرة الاحتجاج والالتفاف على تلك المظاهرات. مثل تلك الحالات والظواهر أيضا لم تتبلور بشكل صحيح من حيث الأهداف والمطالب، بسبب أن من قاموا بتلك الأعمال كانوا بعيدين عن الشعب برمته وانحصروا في مناخ الريف وكتله الدينية وشوارعه الرئيسية وأزقة القرية، فيما عدا بعض الأشلاء الصغيرة في أحياء بعض المدن كحي رأس رمان والمخارقة والحمام، إلا إن جل تلك الاحتجاجات ظلت ريفية النزعة تقودها برجوازية صغيرة فلاحية بفكرها الطوباوي وتذبذبها الاجتماعي والطبقي والفكري والسياسي.
من هنا سنجدها تاريخيا تلك القيادات المشبعة بروح البرجوازية الصغيرة الفلاحية، استعدادها للمساومة والتنازل بل وعقد صفقات من وراء «جماهيرها» تحت ذرائع وتعبيرات سياسية تعبر عن كل شيء إلا الإخلاص السياسي لطموحات المحتجين، الذين تركوا في منتصف الطريق دون توضيح نهاية الطريق والمعركة.
صحيفة الايام
12 اكتوبر 2010