الشرقُ له مساراته وجذوره التاريخية وأديانه المختلفة عن الغرب، هي في أغلبها المسيطر المنتشر تعبر عن شموليات عريقة، وعن استبداد له في التاريخ قرون طوال.
ومن هنا كان دخوله في الرأسمالية الحديثة من باب الدولة، هذا الجهاز المهيمن المسيطر السرمدي: (ومن هنا جاءتْ استعاراتُ الصفاتِ العلويةِ الغيبية الأبدية وصارَ الغيبُ الأرضي إخفاء للمعلومات وثبوت الكرسي الوحيد)، فوقعت قدمٌ من الدولةِ الكليةِ في الحاضر وقدمٌ منها في الماضي، قدمٌ مع الغرب الديمقراطي وقدمٌ مع الشرقِ الاستبدادي، قدمٌ مع التبعية وقدمٌ مع الحرية.
للديمقراطيةِ الغربيةِ شروطٌ هي شروطُ الرأسماليةِ الحديثة، فالديمقراطيةُ هي صراعٌ بين أصحاب الملكيات الخاصة السائدة، وبينهم وبين من لا يملكون، ومن يقدمون قوى عملِهم بضائعَ ذاتَ أسعارٍ، وكل هؤلاء يتصارع ويتعاون من أجلِ تطوير أو تغيير نظامَ البضائعِ المتبادلة في السوق (بعدل أو بغير عدل): الملاكون يسعون لزيادةِ أرباحِهم وتطوير الإنتاج ليقللوا الخسائرَ ووجودَ العمال، والعمالُ يسعون لزيادةِ أجورِهم وتحسين أحوالهم وتغيير المجتمع.
هذه هي الديمقراطيةُ كما تجلتْ في الغرب: تغييرٌ متدرجٌ يقودهُ الملاك أو الرأسماليون ويلحقُ به العمال.
وهذا مغايرٌ للشرق، الذي افتتحتْ كلَّ عصورهِ الإنتاجية منذ عبودية الفراعنة وحمورابي، الدولةُ ذاتُ السلطانِ العريض.
فليس للقطاعاتِ الخاصةِ والحريات الفردية والعقلانية النقدية تاريخٌ كبيرٌ فيها، هي مجتمعاتُ العبوديةِ وطاعة ولي الأمر وعالم الحريم، وسيادة القبيلة وهيمنة المذهب.
تملك القبيلةُ الأرضَ وآبارَ الماءِ والنفط وأراضي الفيء المفتوحة ثم تصيرُ ملكاً خاصاً.
جاءتْ الرأسماليةُ الشرقية الحكومية من أثر الغرب من دون أن تستحوذ على ثقافته الديمقراطية وحرياته.
فوقعتْ بين برلمانات تشرعُ الحريةَ وحكوماتٍ تفرملها، أو يحدث العكس.
في الماضي انفجر الاتجاهان إما حريات شعبية تامة وإما سيطرة حكومية كلية.
إما ليبرالية وإما اشتراكية.
إما أن نكون مثل الغرب تماماً وإما نكون اشتراكيين نتجاوز الغرب الإباحيَّ والشيطاني والإمبريالي!
في العقودِ الأخيرة بدأ نفيلا النفي، بدأتْ عملياتُ التركيبِ بين الشرقِ والغرب، بين التجذرِ في التاريخِ الماضي ورموزهِ الإيجابية وتراثهِ النضالي وملكيتهِ العامة الشعبية، وبين حرياتِ الغرب وديمقراطيته.
النظرةُ الحولاءُ التاريخية إما شرق وإما غرب أخذتْ تُلغى، راحتْ مناهجُ التركيبِ تنمو بصعوباتٍ شديدة، وسطَ عداءٍ تاريخي طويل، ووسطَ تناقضاتِ الإرث المتخلف والهجمات الأجنبية الاحتلالية: نهرو ألغى برنامجَه الاشتراكي المتصلب، وراح خلفاؤهُ يجمعون بين القطاع العام القيادي للتنمية الوطنية الكبرى وبين الديمقراطية وتبادل الكراسي بين أصحاب اليمين وأصحاب اليسار ففتحوا الأبواب للثروة الصناعية الكبرى، واليابان دخلت الديمقراطية الغربية وصار الاشتراكيون مؤثرين بقوة، ودخلت الثنائيةُ الصراعيةُ في روسيا والصين، النضال من أجل بقاء القطاعات العامة والنضال لمراقبتها والسيطرة الشعبية عليها وإطلاق حريات رأس المال اتسعتْ لكن الدولتين الكبيرتين تسيطرُ عليهما قوى بيروقراطية وعسكرية هائلة وتحتاجان إلى وقت أكبر من أجل نمو العمليات الديمقراطية. أوروبا الشرقية مضتْ إلى تجربةِ أوروبا الغربية الديمقراطية مع تراثٍ يساري مهم.
هذه الإصلاحاتُ والرؤى بعيدةٌ كثيراً عن المنطقة العربية الإسلامية، النظرات فيها محدودة التركيب، ودائماً تطرح الثنائيات المتضادة إما غربا وإما شرقا، إما دينا وإما علمانية، إما تهجدا إيمانيا وإما إباحية كافرة، إما رأسمالية وإما اشتراكية، إما قطاعا عاما مسيطرا وإما قطاعات خاصة مهيمنة!
الشرق يحتاج إلى سرعة النمو حقاً لكن من دون حرق المراحل، بحاجة إلى قطاع عام قيادي تقررهُ البرلماناتُ والديمقراطية، بحاجة إلى قطاعٍ خاص واسع مع المراقبة وتأسيس التخطيط المشترك والتوجه الوطني التنموي، جذور الأديان موجودة ولن تزول والحريات أساسية ولا تضاد بين الجانبين، الحزب الاشتراكي يمكن أن يكون فيه ليبراليون، الحزب الليبرالي يمكن أن يكون فيه اشتراكيون، إن المراحلَ وظروفَ كل بلد وحلقة التطور المطلوبة تتطلب النظرات المركبة، وقراءة مثل هذه المهمات اوجدت كبار الإصلاحيين في الشرق، الذين قاموا بثوراتٍ تجديدية في رأسماليات عامة متكلسة، أو في ديمقراطياتٍ فقيرة بائسة.
مثل هذه الشخصيات والأحزاب لم تتشكل باتساع، لكن الظروف والمهمات المعقدة للحياة السياسية سوف تجبر العديد منهم على وضع مثل هذه التحولات والقفز بالشعوب من مثل هذه الأوضاع المتخلفة.
صحيفة اخبار الخليج
17 سبتمبر 2010