إن كان صحيحاً إن ما من ديمقراطية تبدأ وتنشأ كاملة مكتملة، بل إنها تنمو وتتطور بالتجربة وأدواتها التي لا غنى عنها: المناظرات والجدل والمصارحات، فإن الصحيح أيضاً أن العنف لا يستقيم مع الديمقراطية أيّاً كان شكلها ومستواها لأنه يتناقض مع الجوهر السلمي للديمقراطية. هكذا فإن كان من خاسر لدينا اليوم فإن القائمة تطول وفي المقدمة الديمقراطية نفسها.
مشكلتنا في البحرين، أن كل هذه المفاهيم وعلى رأسها «العنف» و «الديمقراطية» وأدواتها ظلت مختلطة ومشوشة، لأنها وضعت أمامنا دوماً في مفاضلة كريهة: الأمن أو الحرية. لم يكن هذا خياراً طوعياً لأي مواطن، بل على العكس جاء على الضد من إرادة شعبية مثلها التصويت الكثيف على ميثاق العمل الوطني. أبرز ما في تلك الإرادة الشعبية، هو الإقرار بالتغيير السلمي نحو حياة ديمقراطية على النحو الذي فصله الميثاق. وأيّاً كانت وجهات النظر هنا حول مستوى الديمقراطية، فإن الإرادة الشعبية لا تعني سوى الإقرار بأن هذه هي قاعدة الانطلاق وأن الديمقراطية (أيّاً كان مستواها) هي الوسيلة. وهذا يستتبع إقراراً بجملة من المسائل الأخرى على رأسها الإقرار بالشرعية السياسية والطابع السلمي للعمل السياسي.
إن الطابع السلمي للديمقراطية هو شرطها الأساسي لكي تتطور، لكن عندما يصبح العنف حقيقة يومية، فإنه لا يفعل سوى أن يضرب الديمقراطية نفسها أيّاً كان مستواها وشكلها ويجعلها موضع شك دوماً لأنه لن يفعل سوى أن يدفع الناس للتشكيك في قيمتها طالما أن أمنهم أصبح على المحك. أبعد من هذا، فهو يبعث برسائل متناقضة وملتبسة حول الموقف من الشرعية السياسية.
لكن شيئاً فشيئاً وعلى مدى السنوات الماضية، رحنا نرى أن ما كان يمكن أن يعد طبيعياً في بدايات التحولات والمراحل الانتقالية، أصبح حقيقة من حقائق الحياة اليومية يراد للناس أن تتعايش معها، وهذا لا يستقيم أبداً بأيِّ منطق. فعندما يصبح العنف أيّاً كان شكله ودرجته أمراً يومياً، فلا تتوقعنّ من أي شعب أن يتقبله مهما كانت المبررات ولا أي حكومة في العالم أن تقف مكتوفة الأيدي. هكذا فحسب حتى يصبح الأمر روتيناً يصلح للتندر فيما بيننا على سبيل التهوين عن أنفسنا قليلاً من وضع يضج بالتوتر، المكتوم تارة والظاهر غالباً.
مشكلتنا الأكثر وقعاً، أن على كاهلنا وعلى جدول أعمالنا مشكلات وأولويات أشد وطأة لأنها تتصل بالحياة اليومية للناس ومعاشهم وحياتهم ومستقبل أبنائهم. وبالنسبة إلى الناس، أي أولئك الذين يذهبون لصناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم، فإن الديمقراطية والتعددية لن يكون لها أي معنى ما لم تمسهم بشكل مباشر في حياتهم ومعاشهم. على هذا لن يكون للشكوى من انقطاع الكهرباء مثلاً أي معنى طالما أن ثمة من يحتج بحرق مولدات الكهرباء. لن يكون للجدل المضني ولعبة التكهن بمن يقوم بهذا ولماذا وما الجدوى أي معنى وهو بحث لا طائل من ورائه طالما أن المواطنين هم الذين يعانون. الاستياء هو نفسه والنقمة هي نفسها، فعندما يختنق طفل صغير من وطأة الحر في بيت لن تقنع أمه أو أباه كل البلاغة حول الديمقراطية والحرية. إنها المقايضة نفسها التي سيجد كل منا نفسه أمامها: الأمن أو الحرية.
منذ عشر سنوات، اخترنا أن ننطلق، لكن المشكلة لم تكن في الديمقراطية وتعدد الآراء، ولا في تباين الآراء، بل في أننا كلما أردنا الانطلاق وجدنا ما يشدنا إلى الوراء، فأصبحت المراوحة هي قدرنا. نتقدم خطوة ونتراجع أخرى للوراء. السبب أن الحرية أيّاً كان مستواها كانت دوماً مهددة، بدافع الخوف من ما قد تأتي به الحرية، لكن أيضاً لأن ما يجري على الأرض يعزز هذا الخوف ويؤكده ويجعله أقرب لليقين.
من قال في يوم أن بلداً يمكن أن يخلو من المشكلات أيّاً كان نوعها وحجمها؟ ومن قال إن الحلول تأتي جاهزة بين عشية وضحاها؟ لم يثبت أبداً أن حل مشكلة في بلد ما يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها. هكذا، فإن كانت الديمقراطية تفرض علينا التدرج في معالجة مشكلاتنا أيّاً كانت والتحلي بالصبر، فإن العنف أيّاً كان درجته ومستواه يطرح الأمر على نحو مغاير تماماً ويقلب الميزان. فهو لا يدع مجالاً للصبر والأناة ولا يدع مجالاً للتفكير العقلاني للتعاطي مع المشكلات وحلها، بل يدفعنا نحو نفاد الصبر وكل نتائجه. السبب واضح، فالمراوحة التي نعيشها تعني بالدرجة الأولى أننا لم نحسم نهائياً ما إذا كنا نريد التدرج أو الطفرات. وهذا يعني أن علينا أن نرتب الأولويات ما بين المرحلي والبعيد (الاستراتيجي)، ما بين ما هو عاجل وما هو آجل، فأحد أبرز مشكلاتنا أن القضايا تختلط وتتداخل دوماً بين ما هو مرحلي وما هو بعيد، بين ما هو عاجل وما هو آجل.
بإمكاننا أن ندخل في جدال لا ينتهي، لكن مشكلة العنف في البحرين أنه لا أب له مثلما وصفه عبيدلي العبيدلي (انظر: عبيدلي العبيدلي «العنف اللقيط»، الوسط، 8 سبتمبر/ أيلول 2010)، لا أحد يتبناه بل يتم التعامل معه (ومن منطلقات متباينة) كإحدى الحقائق اليومية. وبالنسبة إلى آلاف ممن لا يحبذون العنف وسيلة، فإن وجوده واستمراره بأي شكل لم يكن ليعني سوى أن هناك من يسعى لفرض إرادته وأسلوبه على الناس بالدرجة الأولى، على الذين يملكون وجهات نظر أخرى وخيارات أخرى. لكن المشكلة أنه ليس هناك من يعلن أنه وراء هذا العنف، إنه موجود ومستمر وقائم وعلينا أن نتعامل معه باعتباره حقيقة من حقائق حياتنا اليومية. من يقبل بهذا؟ وبأي منطق يتعين أن يقبل الناس بأن يدفعوا فواتير باهظة الكلفة لأن ثمة من قرر أن شيئاً من العنف في الاحتجاج على أي قضية أو مطلب هو الحل؟
لطالما دفع الغالبية من الناس في أي بلد ثمن العنف الذي يمارسه قلة، فها نحن نصف ما يجري دوماً بأنه عنف يمارسه «قلة» سواء بدافع إيجاد المبررات أو بدافع الإدانة. الحقيقة الوحيدة في هذا كله، أن العنف ليس خيار الغالبية من الناس بل قلة والأكثر ألماً أن شباناً صغاراً هم المتورطون فيه. شبان لا يتمنى أحد أن يراهم خلف القضبان، بل على مقاعد الدراسة وفي مواقع تدفعهم وعائلاتهم إلى حياة أفضل.
وبقدر ما يمثل العنف تحدياً لأي حكومة، فهو عبء ثقيل ومضن وخطر على الناس ويدفع البلد نحو الخسارة في كل شيء. من خسارة الأموال واستنزاف الموازنات إلى خسارة الأرواح واستنزاف الطاقات بل والأهم أدوات الحكمة. توتر مستمر على الأرض، واستنزاف يومي للطاقات والأموال فيغيب عندها العقل ليحل مكانه الغضب، فيصبح الجدل حول كل قضية مهما صغرت، محض صراخ وسباب.
يلح السؤال دوماً حول سبل الخروج من هذه الدائرة، ولا أجد من جواب سوى ما أعلنه جلالة الملك في خطابه في 5 سبتمبر عندما قال: «سوف نواصل مسيرة البناء والنماء، ومخططات الإصلاح، ودعم أسس دولة الحق والقانون والديمقراطية، وحقوق الإنسان والازدهار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي».
لا سبيل للتراجع أو العودة إلى الوراء، بل المضي قدماً فيما اخترناه وأجمعت عليه الإرادة الشعبية قبل عشر سنوات
صحيفة الوسط 14 سبتمبر 2010م