مع انطلاق المدافع الأولى لبداية الحرب العالمية الثانية، كانت صرخات الطفل المدلل عمار «قمر» تملأ حوش وفضاء غرف بيت في حي الفاضل، بيت عتيق مجاور لبيوتات كيكسو واحمد الشيخ والقصيبي وام سعود والصباغ وقراطة والموسى وكمنكة هو بيت سالم العريض، بيوت أنجبت جيلا مضغ من محنة ذلك الوقت وفرحه.
في تلك الأزقة الضيقة لفريق الفاضل كانت النساء صديقات الوالدة يتناوبن وهن جالسات الطفل لإرضاعه ليكون أخا مدللا للعديد من الأولاد والبنات، اللاتي كبرن ورحلن بعد أن أنجبن ذلك الرتل من صبية وبنات الحي، حيث الأزقة هناك ستعرف صراخهم ومرحهم، وستدخل البنات مدرسة عائشة ام المؤمنين فيما الاولاد سيلتحقون بالمدرسة الشرقية.
في تلك البقعة الصغيرة من حي الفاضل وأزقتها أيضا سيفقد عمار مبكرا أمه العزيزة عليه وهو في قمة وعيه وعلاقته بوالدته لتتركه طفلا يتيما في حضن خالتي، كان علينا ان نغادر الفاضل إلى حي الحورة مسقط رأس جدتنا من الأم ’فيما ظل عمار متعلقا بروحه ودمه بتلك الأزقة وبيوت الجيران الأولى. ظل لبعض الوقت يأتي ليلا للنوم بعد ان كان يقضي جل يومه مع صبية ورفاق الفاضل ويشاطرهم اللعب والشقوة والمرح. لم تكن الحورة له إلا محطة نوم عابرة بسبب قلق خالتي عليه كوصية أخيرة من أمي على فراش الموت لأختها وهي تقول لها في أنفاسها الأخيرة «هاالله الله على عيالي يا أختي، أوصيك بهم فهم أمانة في عنقك» فكانت خالتي رمزا كبيرا للتضحية في حياتنا.
مع غياب خالتي المبكر كان على عمار ان يغادر بيتنا في الحورة للأبد، لكي يصبح حي الفاضل ليلا ونهارا بيته الأول والأخير، حيث رفض ان يتركه ابدا، كانت النسوة صديقات الوالدة يبكين كلما زرتهن في بيوتهن في مناسبات دائمة، حيث ذلك الجيل من النساء عرف قيمة الصداقة وأصول الألفة والمحبة. رضعنا ثلاثتنا كاخوة من ثدي نساء ذلك الحي، ولكن ظل عمار لهن المدلل والعزيز، فله خصوصيته ومعزته لديهن، كان عليّ في تلك الأيام ان اسأل والدتي التي أرضعتنا حصة بنت بو بشيت، يمه حصة ما هو شكل والدتي؟ فبكت في الحال وهي التي لم تتوقف حتى آخر أيامها تبكي صديقاتها الراحلات كأمي، فقالت لي لكي تعرف أمك طالع أخوك عمار فهو يشبهها تماما، حتى تلك الحفرة الصغيرة في الحنك ورثها عنها.
لم تجف دموع الوالدة حصة ولا عائشة ام سعود، ولا نساء كثيرات كنت أراهن في حوش بيت احمد الشيخ لمجرد إنهن يعرفن أنني العنقود الأخير للمرحومة، والذي كبر بعيدا عن حي الفاضل، فأرى المحبة تقفز في عيونهن وسرعان ما يبكين وهن يسترجعن الذكريات الجميلة مع المرحومة، ثم يبدأن باللوم بعبارة «يا القاطع».
في مرحلة متأخرة كان عليّ ان ازور بانتظام في جولة دائرية بعض البيوت، ثم ازور اخي، بعد غداء شهي في بيت عبدالله القصاب، حيث السياسة كانت الغداء الآخر لنا’ كانت بوابة بيت القصاب «بوخوخة» تذكرنا بتلك البيوت الاولى للتجار الصغار في حي الفاضل، وبيوت ملأ الثراء حوشها فيما بعد ورحلت تاركة بيوت بحرية بمنمنمات وشبابيك تواجه البحر كما هي بيوت الزامل والبسام وغيرهم.
في زقاق ضيق مجاور لبيت بشمي والشتر واحمدي، كان هناك عمار يعيش متعة الدنيا بوحدته، يستمع لبيتهوفن وموزارت ويقرأ هيجل وسارتر ويحلم مع اشعار نزار قباني ودواووينه، التي حفظها كلها عن ظهر قلب. ظل حالما ومات حالما ولم يعرف احد معاناته العميقة الا تلك الجدران الصامتة من حي الفاضل وفريق الترسانة المعشوقة الدائمة له، والتي هجرها على مضض ليحمل مضرب التنس الأرضي كعشق جديد بعد كرة القدم. لم تكن النقود في حياته تعني له شيئا، بقدر ما كان حي الفاضل هو معشوقته والأنثى التي سكنت روحه، فهناك كانت امه، التي تركته طفلا جريحا ويتيما، تركته دون بيت تملأ أرجاءه أصوات النساء الغائبات في زحمة الزمن.
حي الفاضل شّكل لعمار صوتا هامسا وعميقا لنساء جميلات في حي تمازجت فيه الروح الشعبية والتجارة والالق الحضاري والمعمار الخفي، حي ضج بالسياسة وملابس الحداثة لفتيات أنيقات تركن لأفلام ذلك الزمن معنى ودلالة، ولم يعرفن في تلك الأزقة تزمتا كهذا الوقت ولا رعونته وقسوته، حيث العلاقات بين الأولاد والبنات كانت أليفة وصادقة وإنسانية ’ظلت شبابيك الأمس وأبوابه مفتوحة في قلب عمار ولم تغادر طفولته حتى الثواني الأخيرة من حياته، ولكي انسيه محنته في عماّن وساعات الوحدة المريرة كان من الضروري ان اعبث بعاطفته المتأججة عن حكايات مدفونة فضّل تركها تسبح في روحه، كان يردد دائما انت لن تفهم النساء كما افهمهن، انت تفهم في السياسة بس، أما المرأة فهي كائن جميل ومعقد وصعب وحساس له قدسيته، فخلت إنني أتحدث مع عاشق كبير ونحات يقف أمام تمثال رخامي إغريقي الملامح، شعرت ان هناك ميثولوجيا افروديت خفية خطفته، غير انه كان يضحك وهو يوزع نظرته في جوانب المكان.
أتعبته كثيرا بشرح المثلث الهيجيلي وكان يرغب في فهمه بقوة، وكان علي ان ابذل مجهودا لتبسيط شرحه، عندما كنت أزوره في حجرته حاملا له كتبا فلسفية وفكرية يطلبها بين الحين والأخر. اتركه مودعا بوعائشة، فقد فضل ان نناديه بذلك حاملا في داخله صورة أمه واسمها، وظل تعلقه بالفاضل جزءا من ذلك التعلق العميق السري، بكيان امرأة شبيهة بفقدان الأم .
كنت انهي زيارتي دائما بقهوة في حضن حوش والدتي ومرضعتي حصة، لتسألني عن اخبار محمد وقمر، غير أن «قمر» كان بالنسبة لها شيئا أعمق بكثير من مجرد سؤال، فهو ابن صديقتها الحميمة وظلها الراحل الدافئ .
ظل حي الفاضل بدكاكينه وأزقته وجدرانه وشبابيكه، أغنياته وذاكرته السابحة في الروح والجسد، ذلك الجسد الذي صارع الكثير، وتلك الروح التي حملت الآلام، دون ان تبوح للآخرين مشاعر الأسى والحزن، وبأنها من الداخل حملت ثقلا دفينا بروميثيوسيا.
تمسك بأمور كثيرة كالكبرياء والرجولة وقيم الفروسية والنبل، ومقت امورا كثيرة كالدناءة والبخل والغدر والنميمة والحسد، وانزوى في هامش روحه عندما وجد في مساحة الوقت، أن الآخرين يخونون المواقف والصداقة.
صمت بوعائشة في بعض الوقت بطريقته ولجأ لسخرية الأشياء والنكتة، وهرب نحو الموسيقى كمعشوقة راحلة، ففيها كان يرى حي الفاضل والطفولة وملاعب الصبا والذكريات، فكان عليه ان يودع بوعائشة الفاضل بقلبه، الذي توقف عن الخفقان في لحظة مفاجئة مستريحا على اريكته، تاركا للموسيقى تحلق في فضاء الغرفة، لكي ينام نومة ابدية بهدوء عاصفة لم تنه غضبها من الدنيا، غير ان قلبه كان هناك في قلب حي الفاضل، فهناك وُلِد وكان عليه ان يموت فيه ايضا، في شقة الوحدة والعزلة الدائمة، فهل كانت مفارقة أن يغادر عمار وصديق الصبا الشاعر غازي القصيبي في شهر واحد، بعد ان حملا معا مرضا فتاكا خبيثا لا يمنحك وقتا لكي تقول للناس وداعا.
الأيام 5 سبتمبر 2010