الصراعات الضارية غير العقلانية في الدول العربية والإسلامية متباينة بمظاهرها وقساوتها عن كل مظاهر العنف في العالم، توجه الأنظار نحو الخندقين الاجتماعيين في المنطقة المتباعدين أشد التباعد، فثمة هوة هائلةٌ بينهما.
هذان الخندقان لا مثيل لهما بمثل هذه (الضراوة) في بلدان أخرى، رغم أن الديانة تجمع بينهما.
خندق الغنى الواسع المنفصل عن الفقراء والعمالِ الذي يعيش في قصوره وفيلله الفارهة، وهي مظاهر غنى موجودة في بلدان أخرى خاصة بلدان الغرب، لكنها لا تقوم على شبه الانفصال الكامل عن الأهالي، فيجري التحدث في منطقتنا بلغة أخرى غير لغة المواطنين، وتجلب عمالة ليست من البلد المعني، وتقوم الثقافة المستوردة عبر الفضائيات والنت، بتشكيل علاقات منفصمة عن ثقافة البلد، ولا تتداخل معها.
وفي العلاقات الاقتصادية فإن الطبقةَ الغنية تضع السيولة في خدمة الخارج بشكل أساسي، وما الداخل سوى حصالة لتجميع النقد المحلي، وتقوم القوانين الاقتصادية بإعطاء التسهيلات كافة لرأس المال هذا بالحراك من دون قيود. بعض الدول العربية تتبع نظاما ضريبياً، ورغم كل سوئه فهو يمثل شكلا من الحماية الوطنية ومن الاهتمام الحكومي بالأوضاع العامة، وعلى مستويي الرقابة والحريات السياسية والفكرية، تتحددُ عمليات توزيع الضرائب وإدخالها في تغيير حياة الجمهور، وقليلا ما يحدث ذلك، لكن ثمة أدوات قوية من قضاء مستقل ومن صحافة حزبية معارضة تواجه التحايل الضريبي أو الفساد.
وليس الإفراط في حرية رأس المال هذا عملا مفيدا لرأس المال نفسه، بل هو جزء من سياسات الرأسماليات الحكومية العربية الإسلامية الفاسدة، بفصل رأس المال الخاص عن البنى الاجتماعية وتغييرها، وجعله يهيم خارجاً، وتكتفي بعض الدول بالرسوم وهي عمليات تحايل يقصد بها دعم تلك الرأسماليات وتوفير مصادر غنائم لها.
ويرتبط هذا بأزمات الرأسماليات الغربية الراهنة التي تجعل الدول السائرة في سياساتها توجه الفوائض النقدية نحوها، بغرض تقوية اقتصادها، وحصول القادمة على أرباح محدودة في الواقع، ولكن هي ضمان سياسي للعلاقة بين التابع والمتبوع، بين الدول (الرأسمالية) المتخلفة والدول الرأسمالية المتطورة، ولكن الفوائض النقدية والتراكمات المالية اتضح انها اتجهت للبذخ وشراء البيوت الفخمة كما تفجر ذلك في الأزمة المالية الأخيرة وتأثر البلدان الرأسمالية المتخلفة أكثر بغياب الأدوات البرلمانية والرقابية الحقيقية.
وهو أمر يمثل الارتباط بين الخندق المتخلف في الدول العربية الإسلامية، والخندق المتقدم في الدول الغربية، وهما يعيشان في مستوى رفاهية متقاربة، وبالتالي فإن مصادر الثقافة كالأفلام والمسلسلات والأغاني واللغة والنت تتسم بخطوط متشابهة في تبادل المواد، وتغدو هي ذاتها مصدر استنزاف غربي.
وبالتالي فإن السياسة والقواعد العسكرية والصراعات الحادة تغدو أدوات هذا الخندق الغربي في إدارة الأزمات وليس لديه قدرات على تغيير هذا الطابع الصراعي الحاد من جذوره لأنه جزء من أدوات الاستغلال.
ومن جهة أخرى فإن الخندق الآخر خندق الفقراء في الدول العربية الإسلامية يغرق أكثر وأكثر في الانفصال عن الحياة الحديثة، والاستقرار الاقتصادي، ونظرة عامة على تدهور الحياة المعيشية وتبدل أنماط المعمار في هذه الدول، يوضح كيف غدت المقابر سكنا في بعض الدول لتستوعب عدة ملايين، وتفاقمت ظواهر الأكواخِ والبيوت القديمة والعشوائيات خارج الأحياء البسيطة وبطبيعة الحال خارج مدن الرفاه الخاصة، بل ان العمران تدهور داخل العواصم وقرب أحيائها التجارية الخ. وهذا يشير إلى غربة الحكومات والبلديات عن العمران وهي العتبة الأولى للتدهور العام.
في هذه الظروف ينفصم العامة هنا عن الثقافة الحديثة فهي مكلفة، وتتطلب سيارات وتلفزيونات وهواتف نقالة سريعة التبدل وأجهزة غالية ذات موضات مستمرة، فهم بالتالي يعرقلون توجه أولادهم وبناتهم لهذه الحداثة المكلفة، ثيابا واكسسوارات وعطورا وحلياً، خاصة مع ارتباط هذه الثقافة بالخندق الآخر وبذخه، وبالتالي فإن الثقافة الدينية المحافظة المتقشفة الزاهدة تغدو هي السبيل الوحيد العام للاقتصاد العائلي ولحفظ الأخلاق المتصورة هنا.
وتقود هذه الحياة للصراع السياسي العالمي، للانفصال عن خندق الغرب، وتعلل الأخطاء والنقص في الخيرات بأسباب غيبية أو سياسية مباشرة مؤدلجة حسب طبيعة الجماعات الدينية المتغلغلة هنا التي ستوظف هذه الجماهير الشبابية المأزومة من العيش المخنوق وحصار الآمال إلى أشكال معينة وعقائدية خاصة بحيث يغدو الشباب ثائرين وقانعين في ذات الوقت.
هي أزمة عالمية بين نمطين أو خندقين تتمظهر بأشكال شتى حسب البلدان وظروفها، وهما يتواجهان أكثر فأكثر: خندق يصنع السلع والفقر، وخندق آخر يشتري السلع ويصنع العنف.
صحيفة اخبار الخليج
31 اغسطس 2010