على الرغم من مرور قرنين ونيف على ارساء النظم الديمقراطية والدستورية في الغرب فان كل الدول الغربية التي اخذت بهذه النظم عجزت عن ان تؤمن كفالة الحريات العامة وحقوق الانسان بأزهى صورها لمواطنيها في أوقات الحروب الخارجية أو الحروب الاهلية وغيرها من القلاقل الداخلية والاضطرابات ككفالتها في أوقات السلم والاستقرار واستتباب الامن.
وإذا ما قارن المرء مقارنة ممعنة متفحصة بين نجاح أي دولة غربية ديمقراطية معروفة بعراقتها في توخي ومراعاة حقوق المواطنين السياسية والمدنية في أوقات استتباب الهدوء والسلم الاجتماعي الداخلي وبين نجاحها في ذلك خلال دخولها في حروب خارجية أو في اوقات اختلال الاستقرار والقلاقل والهزات بجبهتها الداخلية فان نجاحها في الحالة الأولى هو الأكثر تفوقا وترجيحا من الحالة الثانية، وسواء استندت عند مسها وانتهاكها بدرجة أو اخرى لحقوق مواطنيها إلى قوانين استثنائية دستورية تبيح لها تعطيل بعض الاحكام الدستورية في زمن الحرب والقلاقل أم لم تستند في ذلك، وهنا المصيبة مضاعفة.
هذا الوضع من الاشكالية التاريخية في التباين بين الحالتين ظل مستمرا في كل الدول الغربية الديمقراطية بلا استثناء، حتى وقتنا الحاضر، ولعل آخر تجلياته ما جرى ويجري في الدول الغربية من إجراءات وممارسات استثنائية لمواجهة “الإرهاب” على خلفية احداث سبتمبر 2001، وعلى الأخص في امريكا وبريطانيا، ففي ظل تلك الإجراءات والممارسات الاستثنائية لم تستطع هاتان الدولتان ان تمارساها جنبا إلى جنب مع التقيد الدقيق بحقوق المواطن وحرياته المكفولة دستوريا، ولاسيما المواطن المنحدر من فئة أو ديانة موصومة بـ “الإرهاب” كالمسلمين، لا بل ان تلك الإجراءات والممارسات الاستثنائية المتخذة لم تقتصر عليهم في الاخلال بحقوقهم السياسية والمدنية والانسانية التي كفلها لهم الدستور بل طاولت مواطنين من فئات مختلفة ومن ضمنهم المواطنون البيض الاصليون.
وكما هو معروف فان كل تلك الممارسات المنافية لحقوق الانسان كانت مثار احتجاجات منظمات حقوق الانسان المحلية والدولية، فضلا عن كل القوى السياسية الديمقراطية سواء القلقة من تلك الإجراءات، أم المتضررة منها تضررا مباشرا، ام القلقة من اثرها في المكتسبات الحقوقية والديمقراطية التي حققتها شعوب تلك الدول الغربية بعد تضحيات هائلة دفعتها على مدى قرون.
وبالتالي وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول ان معادلة الجمع بين الحقوق والحريات العامة بكل دقة من جهة والتدابير الامنية سواء – المخولة للدولة دستوريا أم غير المخولة لها دستوريا – من جهة أخرى هي معادلة ما برحت صعبة التحقيق ومن اعقد الاشكاليات التي ما برحت تواجه الفكر الديمقراطي في النظرية والتطبيق، إذ ظل النجاح فيها محدودا جدا على صعيد الممارسة العملية.
بعبارة اخرى لا توجد دولة ديمقراطية غربية حتى اليوم تمكنت من أن تصون الحقوق والحريات لمواطنيها خلال ازمنة الحروب والقلاقل والاضطرابات الداخلية كصيانتها هذه الحقوق والحريات في أزمنة الاستقرار واستتباب السلم الاجتماعي والهدوء.
صحيح ان الدولة أو السلطة الغربية الديمقراطية مقيدة دستوريا في استخدام التدابير والاجراءات الامنية الاستثنائية التي تحدد بدقة الحالات التي يجوز لها استخدامها ومدتها وتتوخى كل ما من شأنه عدم المس بحقوق المواطنين الاصلية، الا انها لم تنجح حتى الآن في تطبيق القانون الاستثنائي وعدم المساس بحقوق المواطن بشكل ناجح في آن واحد، فغالبا ما تلجأ السلطة الغربية – لسبب أو لآخر – إلى التوسع في استخدام الإجراءات الاستثنائية بما يمس وينتهك ولو بعض حقوق المواطن الاصلية.
وإذا كان هذا هو الحال في الدول الغربية الديمقراطية العريقة فما بالك بالدول النامية الحديثة العهد بالتجارب الديمقراطية والدستورية، كدولنا العربية، التي مازالت بناها الاجتماعية تقليدية متقادمة لا تكاد تتجاوز المرحلة الاقطاعية وان حاولت ان تتجمل بعكس مظاهر تلك البنى؟ هنا فما لم تتحل القوى السياسية بنضج سياسي كبير ومعمق وتدرك بسعة افق مبكر المخاطر التي تواجه العملية السياسية الهشة والتي يمكن ان تواجهها مستقبلا ومن ثم تعمل باتجاه منع كل ما من شأنه دفع السلطة العربية إلى فرض القيود الاستثنائية واطالتها فانها تشارك موضوعيا بقصد أو من دون قصد – السلطة العربية في مسؤولية نشوء المناخ المتأزم الذي هيأ لتنفيذ أو فرض تلك القوانين والإجراءات الاستثنائية.
صحيفة اخبار الخليج
30 اغسطس 2010