أخذت تجلياتُ الصراعِ العميقةِ الهيكيلية في النظام المصري تتجسدُ سياسياً واجتماعياً، فالجمهورُ لم يعد يتلقى السياسات الحكومية بسلبيتهِ السابقة، برز حراكٌ نضالي متعدد الأشكال، مطلبي بين قوى اجتماعية متعددة، بدأت أولاً بالقوى العمالية التي تعاني أكثر من غيرها، وفي ظروف صعبة من بيع المصانع إلى ظروف العمل الرهيبة.
إن الارتباط بالدولار خفّض الأجورَ الحقيقية بعد تردي قيمة الجنيه المصري، وهذا يتداخل مع السياسة الأمريكية كذلك، بسبب التبعية لإسرائيل، وإيذاء المشاعر الوطنية والقومية، مما أحدث حراكاً سياسياً وطنياً رافضاً للتبعية، وتوجه نحو ضرورة تغيير البنية الاقتصادية المُدارة بشكلٍ سياسي سيئ، وتركز النقد في النخبة الحاكمة ومسألة التوريث وبضرورة تغيير مواد من الدستور. وكانت قضايا المعيشة والفقر هي من أكثر البؤر التي فجرت الأزمة:
(وفقا لتقرير التنمية البشرية الصادر عن الامم المتحدة عام 2009 جاء وضع مصر في المرتبه الـ 123 من بين 182 من أكثر دول العالم فقراً.. ووصلتْ نسبةُ السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى “مستوى أقل من دولارين في اليوم” الى 45% من السكان، ووفقاً لتقرير منظمة الاغذية والزراعة “فاو” لعام 2009 تعاني نصف الأسر المصرية سوء – تغذيةٍ نتيجة تدني الأجور ومستوى الدخل وأظهرت دراسة أعدتها وكالة بلومبرغ الألمانية للأنباء عام 2009 عن احتلال مصر المركز الـ 57 من بين 60 دولة في معدلات التضخم العليا ووفقاً لمؤشرات الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء وصل معدل التضخم فى الطعام والمشروبات الى 6،19% خلال الفترة من يناير إلى مايو 2010 وارتفع معدل البطالة وتدهور مستوى الأجور)، (من بيان الحزب الشيوعي المصري السابق الذكر). وهذا ما أدى إلى أكثر من ألفي إضراب عمالي في الستة الشهور الأولى من سنة .2010
هي أزمةٌ عامة ومشكلات من كل نوع، لكن الوضع السياسي يستجيبُ لها ببطء، لضخامةِ البيروقراطية العتيقة وتخلف الجمهور، والمعارضة الرئيسية الاخوانية تشارك بحذرٍ شديد في التحركات، لكونها تريدُ قطفَ ثمرة السلطة شبه الناضجة عبر الانتخابات بالشكل الراهن، ومن دون تغيير كبير في النظام، فأعضاء الحزب الوطني أنفسهم يقلدون الاخوان ويرفعون الشعارات الدينية المحافظة نفسها، ويرسمون الشكلانية الديكورية في الوجه والعادات ويعم التظاهر بالصلاح والتقوى، وهم ينتظرون من هو الغالب في ماراثون الالتهام الأكبر للأموال والشركات العامة والخاصة حتى ينتقلوا إلى سفينته.
أي بدلاً من أن يتوجه الحزب الوطني للحداثة والعلمانية والتقدم وإيجاد إصلاحات للجماهير الفقيرة عاد إلى الوراء.
العالم المقحمُ من الفضاءِ الدولي وهو المرشحُ محمد البرادعي، جاءَ من خلال التوجيه الغربي، لوضعِ حدٍ للتكلسِ في السلطة المصرية، التي لم تعدْ مقبولةً لأمريكا وأوروبا الغربية، ومن أجلِ أن تظهر سلطةٌ تخففُ من الصراعات وتبقي العلاقة المصرية – الإسرائيلية – الأمريكية كما هي، أي إنهم لا يريدون تغييراً ثورياً أو دينياً محافظاً، ولا يريدون أن تبقى السلطة في الحزب الوطني الذي احترقتْ أوراقه!
كما أن البرادعي تهديدٌ للحزب الوطني بضرورة أن يتغير وأن يغدو ليبرالياً تحديثياً!
ويبدو ان فرص البرادعي ضعيفة، وإذا اشترك في الانتخابات يكون ذلك مهماً لكن النتيجة محسومة للحزب الوطني ولجمال مبارك واستمرار السياسة الساداتية المباركية نفسها بديكورات جديدة.
الاضطرابُ هو نفسه في أحزابِ المعارضة الليبرالية واليسارية، فمصر الليبرالية التقدمية لا تريد العودة للوراء عبر الاخوان المسلمين، ولا تريدُ البقاءَ في أحضان الإقطاع السياسي المترسمل، لكن ليس لديها البديل.
فبؤرُ الأحزابِ اليسارية لم تحسمْ حتى المفردات بعد كل طوفان الأحداث والتحولات في العالم الشرقي خصوصاً، لاتزال العقلية اليسارية القديمة سائدة، كالحديث عن انتصار الاشتراكية في حين يتطلب البلد جبهةً واسعةً لتشكيل نظام ديمقراطي علماني يبعدُ الدينَ عن السلطة ويبعدُ السلطةَ عن الحزب الحاكم الأبدي.
فحتى حزب الوفد يغازل المفردات الدينية الشمولية وتخلى عن ميراثه الديمقراطي العلماني، أي أن كل أجنحةِ البرجوازية تخافُ من أي تغييرٍ عميق، فرؤوسُ أموالِها في حالاتِ سيولةٍ بين الداخل والخارج، وهي في نفسية مرتعبة من الثورة الداخلية ومن حكم الاخوان المتشدد ومن الجماهير التي تعيش في حالة تخدير ديني وفي هذيان اجتماعي عام، غير قادرة على التصويت الجيد.
ربما تحدث المفاجأة وتفوز المعارضة الليبرالية عبر البرادعي وربما يتكرر سيناريو إيران، لكن من الصعب أن تتكرر سيناريوهات الدول الأوروبية الشرقية، وهذا يعبرُ عن كونِ الطبقة السائدة الغنية ذاتِ أجنحةٍ متضادة بشكل كبير، لم تنشئ ثقافة منسجمة عصرية ديمقراطية بينها، بسبب طبيعة إنتاجها المتخلفة وقواها المنتجة العاملة الريفية والحرفية، ولعدمِ وجودِ طبقةٍ صناعية كبيرة متقدمة تفرضُ التحولَ للديمقراطية الحديثة.
صحيفة اخبار الخليج
30 اغسطس 2010