المنشور

معنى فقدان القصيبي (3 ــ 3)

* تجسير الفجوة بين المثقف والحاكم
كم هو صعب أن يكون المثقف الكبير في عالمنا العربي وزيرا وكم هو صعب أن يكون الوزير مثقفا! مسك خيط هذه المعادلة أشبه بالمستحيل لكن قلة من المثقفين الكبار في بلداننا العربية هم الذين تمكنوا بإرادتهم القوية من جعل المستحيل ممكنا، وغازي القصيبي هو بلا شك واحد من هذه القلة النادرة وهنا يكون عطاء من يحوّل المستحيل ممكنا مزدوجا في المسئولية الإدارية وفي الثقافة معاً.
وفي مطلق الأحوال نستطيع القول ان المثقف الكبير الحقيقي اذا ما وصل الى كرسي المسئولية لا يمكن ان يكون إلا معطاء في وظيفته كما هو معطاء في الثقافة والإبداع والفكر، اللهم قلة من أنصاف المثقفين فهؤلاء لا يمكن ان يكونوا معطائين وعادلين في وظائفهم أو حقائبهم الوزارية بل تجدهم لطالما ينشغلون ويشغلون أنفسهم بتوافه وصغائر الأمور الإدارية لإشباع نزواتهم السلطوية الجديدة كحديثي نعمة ومن ثم فليس لديهم وقت للمحافظة حتى على نصف مستواهم الثقافي السابق الذي كانوا عليه أو يتظاهرون به قبل تسلمهم المسئولية الوزارية لا بل الأدهى من ذلك تراهم أسيري مرض الحقد الدفين بلا سبب تجاه مرؤوسيهم من المثقفين عاجزين عن الشفاء منه.
فالقصيبي المثقف هو من الأصل ابن خير أو “شايف خير” على حد تعبيرنا الشعبي، ومن ثم فإن السلطة جاءت إليه ولا هو سعى إليها.
وما نجاح القصيبي في كل الوزارات التي تقلدها إلا لأنه مثقف كبير لم يسمح لشخصيته إطلاقا بأن تهبط لصغائر الأمور الإدارية التافهة مفرغا قصارى جهده ووقته للقضايا الكبرى الرئيسية مستعينا في ذلك، سواء في المشورة أم في التخطيط أم في التنفيذ، بذوي الكفاءات من أهل العلم والثقافة مستبعدا الجهلة والمتزلفين.
وكم هو قلب القصيبي كبير حينما يكون حليما ويتسامى – كوزير يمثل دولة – على قضايا تتصل به شخصيا ويكون طرفها الآخر الدولة ذاتها!
يروي الكاتب السعودي المعروف عبدالرحمن الراشد وهو من الأقلام المقربة الى المؤسسة الحاكمة.. يروي غداة رفع الحظر عن كتب القصيبي في السعودية الذي تم كما نعلم قبيل أيام قليلة فقط من وفاته أن القصيبي حينما كان سفيرا لبلاده في لندن دخل عليه أحد المثقفين السعوديين شاكيا حظر كتابه من الدخول الى السعودية.. ولأن السفير على حد تعبير الراشد لا علاقة له بالمنع فما كان منه سوى اًن يطيّب خاطره: “أنت منعوا لك كتابا ومعذور في أن تزعل لكن ما رأيك في واحد منعوا له عشرة كتب.. هو أنا؟”.
هذا الرد الدبلوماسي اللبق هو واحد من الحالات التي يتمكن من خلالها المثقف الكبير من تجسير الفجوة بين المثقف والسلطة، والعكس صحيح اذا ما استطاعت السلطة من جانبها ان تتفهم حقوق المثقف وتحترم استقلاليته وعدم الإصرار على احتوائه بالمطلق كما تفعل عادة أسوأ الأنظمة الشمولية الاستبدادية.
وهكذا فالمثقف الغاضب خرج من السفارة كاظما غيظه وراثيا حال السفير غازي ومستصغرا حالته مقارنة بحال السفير.
وغازي القصيبي لم ينظر الى قضية حظر كتبه من التداول في المكتبات السعودية على أنه قرار كيدي من قبل حكومة بلاده، فهو يعلم في كثير من الأحيان ما تكون سلطة المجتمع الدينية، وعلى الأدق حسب فهمها للدين أقوى من سلطة الدولة، ولولا لم يكن يملك سعة الأفق هذه لكان من الصعب على وزير يمتاز بضيق الأفق ان يتقبل بسهولة قرارا بحظر كتبه صادرا عن وزير زميل ند له في الحكومة.
على أي حال فإن الحالات التي أسهم فيها المثقف في تجسير الفجوة بين السلطة والساسة أو بين السلطة وفئات أو أفراد من الشعب في دولنا العربية نذكر منهم في هذه العجالة الاستاذ محمد حسنين هيكل فكم لعب دورا في الحيلولة دون اعتقال مثقفين ليبراليين أو يساريين خلال حكم عبدالناصر أو للإفراج عن بعضهم! ويمكن الرجوع في هذا الشأن الى ما أورده من معلومات موثقة في حلقاته الأخيرة من برنامج “تجربة حياة” في قناة “الجزيرة” وذلك استنادا الى مكانته المرموقة المقربة لدى الرئيس جمال عبدالناصر. وكذلك يمكن القول إن هذا الدور لعبه الى حد ما لطفي الخولي الذي كان مقربا بدوره لدى محمد حسنين هيكل، علاوة على نماذج مصرية أخرى لا تحضرنا الان أسماؤهم.
أما على الصعيد الوطني البحريني فلعل من أبرز من لعبوا هذه الادوار في تقريب أي فجوات أو سوء تفاهم بين الدولة والمثقفين العقلانيين المعتدلين في الرأي الآخر المفكرين البحرينيين الدكتور محمد جابر الأنصاري والدكتور علي فخرو وآخرين بدرجة أقل، وفيما يتعلق بهذين المفكرين تحديدا فبالرغم من أن الأول شغل عدة مسئوليات إدارية قبيل وبعيد استقلال البحرين وهو الآن يحظى بثقة جلالة الملك كمستشار ثقافي لجلالته، وبالرغم من أن الثاني نال ثقة القيادة والحكومة فترة طويلة كوزير فيها.. فمن يستطيع ان يقلل أو يتجاهل أدوارهما الإدارية كمثقفين كبيرين ماضيا فضلا عن أدوارهما الثقافية والسياسية الحاضرة؟
وأتذكر على سبيل المثال ــ لا الحصر ــ أن الدكتور علي فخرو ومن موقع مسئوليته كوزير للتعليم في التسعينيات كان صاحب الفضل في توظيف المثقف المبدع الموسيقي الكبير الراحل مجيد مرهون في وزارته، وبلا شك ثمة أدوار أخرى لا تحضرني الآن أو أجهل بعضها الآخر سواء لعلي فخرو نفسه أم للدكتور الأنصاري.
والحال أن تجربة الفقيد الراحل غازي القصيبي تمثل حالة نموذجية جديرة بالدراسة والاستلهام من قبل مثقفينا وحكامنا العرب على السواء فيما يمكن ان يلعبه الطرفان في الأخذ قدر المستطاع بنظرية إبراهيم سعدالدين في تجسير ما يمكن تجسيره من فجوة بين المثقف والحاكم شريطة امتلاك كل منهما قدرا من العقلانية والتسامح حسب الظروف والحالات المتاحة بما يخدم مصلحة الشعب والوطن المشترك.. وللحديث صلة مستقبلاً.

صحيفة اخبار الخليج
25 اغسطس 2010