لولا ثقافته الرفيعة المعمقة والمستنيرة واسلوب تعامله مع الناس على اختلاف فئاتهم ومستوياتهم بلباقة، وهو ما يعرف بالانجليزية بـ “الجنتلمان” سواء في عمله الاداري الرسمي ام في الوسط الدبلوماسي ام في الوسط الثقافي لما حظي القصيبي بهذا الرصيد من الشعبية والسمعة الطيبة لدى مختلف الاوساط الرسمية والشعبية والثقافية على السواء، فان تجمع شخصية رسمية برتبة وزير تمثل دولة عربية خليجية لطالما صوب المعارضون العرب على اختلاف مشاربهم الفكرية سهام النقد الى سياساتها نقول ان تجمع مثل هذه الشخصية اعجاب واحترام الاوساط الرسمية في البلدان العربية فضلا عن قيادة بلاده من جهة واعجاب واحترام شريحة واسعة من المثقفين والساسة في الوقت ذاته فذلك يُعد من الامور غير المألوفة والنادرة في عالمنا العربي. ولعل هذا سر تمسك قيادة بلاده السياسية به وثقتها الوثيقة فيه فهو بهذه الخصال والمناقب في الثقافة والخبرة والكفاءة ومقومات الشخصية الناجعة خير من يمثل بلاده سواء في الوسط الاداري التنفيذي كوزير، ام في الوسط الدبلوماسي كسفير، أم في الوسط الثقافي كمثقف كبير وكمبدع.
أفادني مصدر موثوق انه قبل نحو عام او عامين ان عرض القصيبي استقالته امام عاهل البلاد متذرعا بكبر سنه لكن الاخير رفضها بلباقة معلقا على ذلك بالقول: لست وحدك في ذلك وعطاؤك مازال بخير والله يعطيك العافية وطول العمر.
على ان ما يجسده القصيبي من نموذج فذ في الجمع بين الشخصية الادارية الرسمية والشخصية المثقفة شبه المعارضة للأوضاع أو الحالات الثقافية والاجتماعية القائمة في بلاده التي تعكس درجة التطور الاجتماعي التي تمر بها في مرحلتها التاريخية الراهنة انما يذكرنا بنموذج المثقف الذي يخوض معركة على طريقته المستقلة وبأسلوبه العقلاني المعتدل لتجسير ما يعرف بالفجوة بين المثقفين والسلطة، وهي النظرية التي اطلقها الباحث الاجتماعي سعد الدين ابراهيم في الثمانينيات من القرن الماضي وصدر له كتاب بهذا الاسم تقريبا، واثار في حينه عاصفة من الاحتجاجات في اوساط المثقفين العرب المعارضين لحكوماتهم العربية.
بيد ان تجربة المثقف القصيبي ونجاحاته داخل الادارة وفي الساحة الثقافية بما في ذلك تصديه الشجاع لما اسمته “الشرق الاوسط” السعودية بـ “خفافيش الظلام وأبواق التطرف” ومواجهته للحملة المسمومة التي وصفته بـ “التغريبي، الكافر، العلماني، المنافق” بسلاح الكلمة والقلم ودحض الحجة الدينية المضللة والقصيرة النظر بالحجة الدينية المفحمة البعيدة النظر، كل ذلك يجعل منه نموذجا للمثقف والاداري الكفؤ السعودي الذي تمكن من ان يجسد صحة نظرية المفكر سعد الدين ابراهيم في تجسير الفجوة بين المثقف والسلطة ان لم يكن على نحو مطلق في مختلف الظروف فعلى الاقل في ظروف معينة أو بهذا القدر او ذاك تبعا للظروف السياسية لكل دولة، وهذا ما سنتركه الآن لنتناوله بشيء من التفصيل غدا بإذن الله.
اما في مجال كفاءته في قيادة العمل المؤسسي التنفيذي الرسمي فقد عرف القصيبي بزياراته الفجائية الى ميادين العمل التي تخضع تحت سلطاته في سياق الرقابة الادارية. وقبل نحو عامين اتذكر أنني كتبت في هذا المكان عما يبتكره من وسائل وأساليب للتغلب على بعض المشاكل التي تواجه الخدمات المقدمة للمواطنين من قبل الوزارة التي يديرها ومن ذلك حينما اثبتت الدراسات ان شريحة من الشباب السعودي تحجم عن الاقبال على بعض الوظائف والاعمال المتوافرة كأعمال المطاعم مما يضخم من نسبة العاطلين فما كان منه الا ان قام بنفسه في مبادرة فريدة من نوعها بين نظرائه وزراء العمل الخليجيين بارتداء زي مقدمي الوجبات في احد مطاعم الوجبات السريعة، وقام بتقديمها للزبائن الشباب المذهولين بمبادرته وذلك بهدف لفت انظار الشباب العاطلين عن العمل وحفزهم إلى الاقبال على هذه الوظائف وعدم الترفع عليها.
وكما نعلم فان كل دول الخليج من دون استثناء، وبضمنها البحرين، تعاني هذه الظاهرة المؤسفة لا السعودية فحسب، بغض النظر عن نسبها في كل دولة.
وسئل القصيبي في حوار صحفي: أي الوظائف الاقرب الى نفسك: الوزارة ام السفارة؟ الكهرباء والصحة أم المياه والعمل؟ فأجاب بصراحته المعهودة: “صدقني لا توجد وظيفة قريبة الى القلب، صدقني كل وظيفة تعني صحوا مبكرا ونوما متأخرا ومواعيد مزعجة وزوارا ثقلاء ومصالح ترتدي ثوب النزاهة واوراقا مبعثرة وطعنات من كل اتجاه، لا استثني من ذلك أي وظيفة مررت بها او مرت بي. القريب من القلب هو الشعور انك استطعت رغم هذا كله، لا بسبب هذا كله، ان ترسم ابتسامة على وجه، ان تخفف من معاناة انسان، ان تجعل الحياة اخف وطأة على مخلوق، هذا وحده ما يبقى، والباقي قبض الريح”.
وعلى الرغم من انتماء الدكتور غازي اجتماعيا الى فئة رجال الاعمال الميسورين فإن ضميره المهني والانساني حينما تقلد آخر منصب شغله وزيرا للعمل لم يسمح له بأن ينحاز ضد الطرف الاضعف في العلاقة بين اطراف الانتاج الثلاثة الا هم العمال، وحينما سئل عن كيف خاض معركة توطين الوظائف ضد اصحاب العمل، اجاب بأنها معركة لابد منها لتوفير لقمة العيش وحق العمل للشباب: “كان بوسعي توقع ردود الفعل من كل من تضررت مصالحه… ويبدو انه من قدري ان اضر بمصالح البعض في كل عمل اتولاه”.
وبكل المقاييس فإن ما حققه القصيبي للعمال والعاطلين في بلاده كوزير عمل افضل مما حققه وزراء عمل عديدون في وطننا العربي ينتمون عائليا واجتماعيا الى الطبقات الشعبية السفلى. وكان القصيبي رحمه الله يكره الردح الاعلامي كوزير في التعامل مع وسائل الإعلام لمجرد لفت أنظار الجمهور، وغالبا ما يلتزم الهدوء في التعامل مع من يختلف معه (الشرق الاوسط 16/8/2010).
صحيفة اخبار الخليج
24 اغسطس 2010